الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ من الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ من بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ من اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوك شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ من بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ .
إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا من كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ( أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَانَهُ ) .
الثَّانِي : نَزَلَتْ فِي شَأْنِ ( [ بَنِي ] قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا [ لَهُ ] : إنَّ النَّضِيرَ يَجْعَلُونَ خَرَاجَنَا عَلَى النِّصْفِ من خَرَاجِهِمْ . وَيَقْتُلُونَ مِنَّا مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَّا وَدَوْهُ أَرْبَعِينَ وَسْقًا من تَمْرٍ ) .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ( الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا [ لَهُ ] : إنَّ رَجُلًا مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ ، إنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ ، فَأَتَوْا بِهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَكَ . فَرَفَعَ يَدَهُ ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ . فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ . فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُجِمَا ) . هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ [ وَالْبُخَارِيُّ ] وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : ( إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ : ائْتُونِي عِلْمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ ، فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمَرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ قَالَا : نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا . قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟ قَالَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا ، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ . فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّهُودِ ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ . فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُخْتَارِ من ذَلِكَ :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ وَمَا قَالَ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، وَمَا شَكَوْهُ من التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ تَحْكِيمًا مِنْهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَكْوًى .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، كِلَاهُمَا فِي وَصْفِ الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَكَّمُوهُ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُصَالَحُونَ ، وَعُمْدَةُ الصُّلْحِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ تَعَرَّضُوا لَنَا وَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إلَيْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا رَفَعُوهُ ظُلْمًا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَةٍ ، أَوْ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرِيعَةُ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ لَمْ يُمَكَّنْ بَعْضَهُمْ من بَعْضٍ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَيَحْكُمُونَنَا فِيهِ وَيَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ أَعْرَضَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ .
قُلْت : وَإِنَّمَا أَنْفَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ، لِيُحَقِّقَ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ وَكَتْمَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ .
وَمِنْهُ صِفَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّجْمُ عَلَى مَنْ زَنَا مِنْهُمْ . وَعَنْهُ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ من الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ من آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَحُجَجِهِ الْبَيِّنَةِ ، وَبَرَاهِينِهِ الْمُثَبِّتَةِ لِلْأُمَّةِ ، الْمُخْزِيَةِ لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي التَّحْكِيمِ من الْيَهُودِ :
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَكَمَ أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ إنْفَاذَ الْحُكْمِ حَقُّ الْأَسَاقِفَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا حَكَّمَ الزَّانِيَانِ الْإِمَامَ جَازَ إنْفَاذُهُ الْحُكْمَ ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْأَسَاقِفَةِ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا لَنَفَذَ [ حُكْمُهُ ] وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْحَاكِمِ ؛ فَالْكِتَابِيُّونَ بِذَلِكَ أَوْلَى ، إذْ الْحُكْمُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْحَاكِمِ عَلَى النَّاسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ . وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ؛ إنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا من أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ ، وَكَانُوا حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ يَسْرَةُ ، وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا ، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ ، وَإِنْ أَفْتَى بِهِ فَاحْذَرُوهُ ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ أَرَادَهَا اللَّهُ فِيهِمْ فَنَفَذَتْ ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَنْ أَعْلَمُ يَهُودَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : ابْنُ صُورِيَّا . فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ اللَّهَ ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ ، ثُمَّ طَبَعَ [ اللَّهُ ] عَلَى قَلْبِهِ ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ .
وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ ، فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا ، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ . . . . } . قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ : ( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك ؛ فَهَؤُلَاءِ ) هُمْ الْجَوَاسِيسُ ، وَلَمْ يَعْرِضْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ ، وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ ، وَكُلُّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ . قَالَ مَالِكٌ : إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا فَحُكْمُهُ مَاضٍ ، وَإِنْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا بَيِّنًا .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : يُمْضِيه إنْ رَآهُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يُحَكَّمُ فِيهَا إلَّا السُّلْطَانَ . وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتَصَّ بِهِ الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنَفَذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّحْكِيمُ جَائِزٌ ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ آحَادُ النَّاسِ الْوُلَاةَ وَالْحُكَّامَ ، وَلَا يَأْخُذُ آحَادُ النَّاسِ الْوِلَايَةَ من أَيْدِيهِمْ ، وَسَنَعْقِدُ فِي تَعْلِيمِ التَّحْكِيمِ مَقَالًا يُشْفِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إشَارَتُهُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُحَكَّمٍ فَإِنَّهُ هُوَ مُفَعَّلٌ من حَكَّمَ ؛ فَإِذَا قَالَ : حَكَّمْت ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مُفِيدًا ، فَإِذَا أَفَادَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفِيدَ التَّكْثِيرَ كَقَوْلِك : كَلَّمْته وَقَلَّلْته ، أَوْ يَكُونَ بِمَعْنَى جَعَلْت لَهُ ، كَقَوْلِك : رَكَّبْته وَحَسَّنْته ، أَيْ جَعَلْت لَهُ مَرْكُوبًا وَحُسْنًا ؛ وَهَذَا يُفِيدُ جَعَلْتُهُ حَكَمًا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقُّ الْحَاكِمِ ، بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى تَهَارُجِ النَّاسِ تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَلَا بُدَّ من نَصْبِ فَاصِلٍ ؛ فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرَجِ ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ ، لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ ، وَتَحْصُلَ الْفَائِدَتَانِ .
وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَلْحَظُونِ الشَّرِيعَةَ بِعَيْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْمَصَالِحِ ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْمَقَاصِدَ ، وَإِنَّمَا يَلْحَظُونَ الظَّوَاهِرَ وَمَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . وَلَمْ أَرْوِ فِي التَّحْكِيمِ حَدِيثًا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ الْآنَ إلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْعِرَاقِيُّ ، أَخْبَرَنَا الْجَوْنِيُّ ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ ، أَخْبَرَنَا النسائي ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ الْمِقْدَامِ بْنَ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ شُرَيْحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ( هَانِئٍ قَالَ : لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ وَهُمْ يُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ : إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ .
فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَك من الْوَلَدِ ؟ قَالَ : لِي شُرَيْحٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَمُسْلِمٌ . قَالَ : فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قَالَ : شُرَيْحٌ . قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ ) .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : كَيْفَ أَنْفَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ؟ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ جَوَابُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ وَقَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْإِمَامُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، إذْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَرْكِهَا . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ من قَوْلِنَا ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ الْحَقِّ فِي الدَّلِيلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ : إنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ ، وَلَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ الْيَوْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاخْتِيَارِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِمْ ، فَفِي هَذَا يَكُونُ النَّظَرُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، مُخْبِرًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِيهِ : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ من بَعْدِ ذَلِكَ } وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ جَاءُوا من قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ، فَقَالَ { فَإِنْ جَاءُوكَ } . ثُمَّ خَيَّرَهُ فَقَالَ : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَالْقِسْطُ هُوَ الْعَدْلُ ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ شُهُودٌ مِنَّا عُدُولٌ ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْكُفَّارِ عَدْلٌ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَفَضِيحَةَ الْيَهُودِ حَسْبَمَا شَرَحْنَا ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ من سِيَاقِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ .
وَلَوْ نَظَرَ إلَى الْحُكْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ لَمَا أَرْسَلَ إلَى ابْنِ صُورِيَّا ، وَلَكِنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُجُوهُ فِيهِ من قَبُولِ التَّحْكِيمِ وَإِنْفَاذِهِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَهِيَ الْحَقُّ حَتَّى يُنْسَخَ ، وَبِشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، وَذَلِكَ دِينٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ بِالْعُدُولِ مِنَّا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } :
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ : وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ ؛ يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا من الْحَقِّ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فِي قَوْلِهِ : { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } ، آخِرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } .
اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهُ لِلْيَهُودِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ ، وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى ، وَبِهِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ .
قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَهَذَا يَخْتَلِفُ إنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ من عِنْدِ اللَّهِ ؛ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ .