الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَائْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى }
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ } :
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : يَخْرُجُ عَنْهَا إذَا طَلَّقَهَا ، وَيَتْرُكُهَا فِي الْمَنْزِلِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ } فَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَا قَالَ : أَسْكِنُوهُنَّ .
وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ قَالَ : قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ } يَعْنِي الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي قَدْ بِنَّ من أَزْوَاجِهِنَّ ، فَلَا رَجْعَةَ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ ، وَلَيْسَتْ حَامِلًا ؛ فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ ؛ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ ، لَا يَتَوَارَثَانِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا .
وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَالْمَسْكَنُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا .
فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبِنْ مِنْهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نِسَاؤُهُمْ يَتَوَارَثْنَ ، وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مَا كُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّكْنَى لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ مَعَ نَفَقَتِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ ، كُنَّ حَوَامِلَ أَوْ غَيْرَ حَوَامِلَ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالسُّكْنَى لِلَّاتِي بِنَّ من أَزْوَاجِهِنَّ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ؛ فَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ لِلْحَوَامِلِ اللَّائِي قَدْ بِنَّ من أَزْوَاجِهِنَّ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ .
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي بَسْطِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِهِ :
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ السُّكْنَى أَطْلَقَهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّفَقَةَ قَيَّدَهَا بِالْحَمْلِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ لَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ مَهَّدْنَا سُبُلَهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَمَعْنًى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ . وَهَذَا مَأْخَذُهَا من الْقُرْآنِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ } رَاجِعٌ إلَى مَا قَبْلَهُ ، وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ .
قُلْنَا : لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَمَا قَالَ : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } ؛ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ يُنْفَقُ عَلَيْهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ ، فَلَمَّا خَصَّهَا بِذِكْرِ النَّفَقَةِ حَامِلًا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْبَائِنُ الَّتِي لَا يُنْفَقُ عَلَيْهَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَأَحْكَامَهَا حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى : { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمًا يَعُمُّ الْمُطَلَّقَاتِ كُلَّهُنَّ من تَعْدِيدِ الْأَشْهُرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ [ مِنْ الْأَحْكَامِ ] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؛ فَرَجَعَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ من الْأَحْكَامِ إلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ .
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } :
قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ شَيْئًا من مَسَائِلِ الرَّضَاعِ ، وَوَضَّحْنَا أَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً عَلَى الْأُمِّ ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهَا تَارَةً .
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : رَضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجَةِ مَا دَامَتْ الزَّوْجِيَّةُ ، إلَّا لِشَرَفِهَا أَوْ مَرَضِهَا فَعَلَى الْأَبِ حِينَئِذٍ رَضَاعُهُ فِي مَالِهِ .
الثَّانِي : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ [ وَالشَّافِعِيُّ ] : لَا يَجِبُ عَلَى الْأُمِّ بِحَالٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يَجِبُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ حَالٍ .
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا عَلَيْهَا أَوْ لَهَا ، لَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْضِي بِأَنَّهُ عَلَيْهَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ، وَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فَهُوَ كَالشَّرْطِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ من أَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ أَصْلٌ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ يُقْضَى بِهِ فِي الْأَحْكَامِ [ وَالْعَادَةُ ] إذَا كَانَتْ شَرِيفَةً أَلَّا تُرْضِعَ فَلَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ . فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا يَلْزَمُهَا إرْضَاعُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَابِلٍ ثَدْيَ غَيْرِهَا ، فَيَلْزَمُهَا حِينَئِذٍ الْإِرْضَاعُ ؛ أَوْ تَكُونَ مُخْتَارَةً لِذَلِكَ فَتُرْضِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ بِالْأُجْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَائْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } وَهِيَ :
المسألة الرَّابِعَةُ : فَالْمَعْرُوفُ أَنْ تُرْضِعَ مَا دَامَتْ زَوْجَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ، وَأَلَّا تُرْضِعَ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ إلَّا بِأَجْرٍ . فَإِنْ قَبِلَ غَيْرَهَا لَمْ يَلْزَمْهَا ، وَإِنْ شَاءَتْ إرْضَاعَهُ فَهِيَ أَوْلَى بِمَا يَأْخُذُهُ غَيْرُهَا .