الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ : ( لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبَضَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ -امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ- عَلَى عِنَانِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مُرْ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا فَنَضْرِبَ رِقَابَهُمْ . فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوَخَيْرٌ من ذَلِكَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ؟ فَقِيلَ لَهُ : أَوَقَسَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمَنْ خَرَجَ يُدَاوِي الْجَرْحَى ؟ فَقَالَ : مَا عَلِمْت أَنَّهُ أَسْهَمَ لِامْرَأَةٍ فِي مَغَازِيهِ ) .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : وَكَانَتْ حُنَيْنٌ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ لَنَا مَالِكٌ : حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِصَفْوَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ : وَاَللَّهِ لَا نَرْتَدُّ أَبَدًا . فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ : وَاَللَّهِ لَرَبٌّ من قُرَيْشٍ خَيْرٌ من رَبٍّ من هَوَازِنَ .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَعْطَى صَفْوَانَ مَثْنَى مِئِينَ أَوْ ثَلَاثَ . وَقَالَ صَفْوَانُ : لَقَدْ حَضَرْت حُنَيْنًا وَمَا أَحَدٌ من الْخَلْقِ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْهُ ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ من الْخَلْقِ مِنْهُ . وَكَانَ صَفْوَانُ من الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ وَهْبٍ : سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ حِينَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَعْطَاهُ أَكَانَ مُسْلِمًا أَوْ مُشْرِكًا ؟ قَالَ : مَا سَمِعْت شَيْئًا ، وَمَا أَرَاهُ كَانَ إلَّا مُشْرِكًا . وَلَقَدْ قَالَ : رَبٌّ من قُرَيْشٍ خَيْرٌ من رَبٍّ من هَوَازِنَ وَمَا هَذَا بِكَلَامِ مُسْلِمٍ .
وَكَانَ من أَشَدِّهِمْ قَوْلًا حِينَ قَالَ صَفْوَانُ : لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أُمَيَّةَ إذْ لَمْ يَرَ هَذَا الْأَسْوَدَ فَوْقَ الْكَعْبَةِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : كَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ . قَالَ مَالِكٌ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ وَجْهَهُ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ بِالسُّقْيَا جَاءَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَكَانَ شَاعِرًا ، فَأَنْشُدهُ شِعْرَهُ لِيَعْلَم مَا عِنْدَهُ وَيَنْظُرَ مَا فِي نَفْسِهِ ، فَأَنْشَدَهُ :
قَضَيْنَا من تِهَامَةَ كُلَّ إرْبٍ *** وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجَمَمْنَا السُّيُوفَا
نُسَائِلُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ *** قَوَاطِعُهُنَّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْقَصِيدَةُ مَشْهُورَةٌ ، وَتَمَامُهَا :
فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا *** بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنَّا أَلُوفَا
وَتُنْتَزَعُ الْعُرُوشُ بِبَطْنِ وَجٍّ *** وَتُصْبِحُ دَارُكُمْ مِنَّا خُلُوفَا
وَتَأْتِيكُمْ لَنَا سَرْعَانُ خَيْلٍ *** يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا
إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ *** لَهَا مِمَّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا
بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ *** يَزُرْنَ الْمُصْطَلَيْنَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا *** قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيَّةُ الْأَبْطَالِ فِيهَا *** غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًا مَدُوفَا
أَجَدُّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ *** مِن الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
فَخَبِّرْهُمْ بِأَنَّا قَدْ جَمَعْنَا *** عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجْبَ الطُّرُوفَا
وَأَنَّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ *** يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا
رَئِيسُهُمْ النَّبِيُّ وَكَانَ صَلْبًا *** نَقِيَّ الثَّوْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا
رَشِيدَ الْأَمْرِ ذَا حُكْمٍ وَعِلْمٍ *** وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا
نُطِيعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا *** هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا لَطِيفَا
فَإِنْ يُلْقُوا إلَيْنَا السَّلْمَ نَقْبَلْ *** وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ *** وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعْشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا *** إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مَضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَا لَقِينَا *** أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمْ الطَّرِيفَا
وَكَمْ من مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا *** صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً *** فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا
بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيِّنٍ صَقِيلٍ *** نَسُوقُهُمْ بِهِ سَوْقًا عَنِيفَا
لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى *** يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَنُنْسِي اللَّاتِي وَالْعُزَّى وَوُدَّ *** وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا *** وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يُقْتَلْ خُسُوفَا
فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلِ بْنِ عمرو بْنِ عُمَيْرٍ ، فَقَالَ :
مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا *** فَإِنَّا بِدَارِ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ من قَبْلِ مَا نَرَى *** وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلَ عمرو بْنِ عَامِرٍ *** فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا
وَقَدْ عَلِمَتْ أَنْ قَالَتْ الْحَقَّ أَنَّنَا *** إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا *** وَيُعْرَفَ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا
عَلَيْنَا دِلَاصٌ من تُرَاثٍ مُحَرَّقٍ *** كَلَوْنِ السَّمَاءِ زِينَتُهَا نُجُومُهَا
نُرَفِّعُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمَ *** إذَا جُرِّرَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا
قَالُوا : فَلَمَّا سَمِعَتْ دَوْسٌ بِأَبْيَاتِ كَعْبٍ هَذِهِ بَادَرَتْ بِإِسْلَامِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ : قَالَ مَالِكٌ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلْبُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ من الْإِمَامِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا . وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ نَفَلَ فِي بَعْضِهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ ، إلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ ) .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ نَفْلَ الْأَسْلَابِ وَغَيْرَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ من الْخُمُسِ ، لَا من رَأْسِ الْمَالِ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخُمُسَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِرَأْيِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .