– قوله تعالى : { فصل لربك وانحر ( 2 ) } :
اختلف في معناه . فقيل : أن صل أمر بالصلاة على العموم في الفرائض والنوافل . وانحر : أمر بنحر الهدي والنسك {[10865]} والضحايا . أي ليكن شغلك هذين . ولم يكن في ذلك الوقت جهاد . وقيل : هي مخصوصة بصلاة الصبح في المشعر الحرام ثم النحر بعدها بمنى ، {[10866]} وقيل : هي مخصوصة بصلاة العيد ثم النحر بعدها ، {[10867]} وأن الآية نزلت بالمدينة . وفي الآية على هذا القول الأمر بالضحية يوم النحر . وقد اختلف فيها : هل هي واجبة أم لا ؟ وفي المذهب القولان عن مالك ، وقد روي عنه أن الضحية أفضل من الصدقة ، وروي عنه أن الصدقة أفضل من الضحية . والمشهور عنه أنها سنة ، {[10868]} والأمر في الآية محتمل للوجوب وللندب ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رفع احتمال الوجوب ، قال صلى الله عليه وسلم : " أمرت بالنحر ، وهو لكم سنة " {[10869]} . وفي الآية أيضا على هذا القول – على قول من رأى أن الواو ترتب – أن النحر لا يكون إلا بعد الصلاة ، وإن لم نقل بأن الواو ترتب – وهو المشهور عن العرب – فقد تبين أن المراد ذلك بالإجماع . على أنه لا يجوز النحر قبل الصلاة ، وبالأحاديث الواردة في ذلك كحديث أبي بردة بن نبار وغيره {[10870]} . وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة فأمر أن يصلي ثم ينحر ، وقاله قتادة . فهذا من نسخ السنة بالقرآن . وإنما اختلف في وقت النحر بعد الصلاة ، فاعتبر مالك رحمه الله تعالى نحر الإمام بعد الصلاة ، ورأى أنه من نحر بعد الصلاة قبل نحر الإمام لم يجزه وأعاد . واعتبر أبو حنيفة الصلاة خاصة دون نحر الإمام ، فأجاز النحر بعد الصلاة . واعتبر الشافعي مقدار الصلاة والخطبتين ، ولم يعتبر الصلاة ولا نحر الإمام ، قال : فإن ذبح بعد مقدار ما توقع فيه الصلاة والخطبتان جاز ، سواء صلى أو لم يصل . ودليل قول مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة أن يعود بضحية أخرى ، وكان ذبح قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال معمر عن الزهري في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات : 1 ] نزلت في قوم ذبحوا قبل أن ينحر النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصلي ، فأمرهم أن يعيدوا {[10871]} ، فتبين بما جاء من هذا أن المراد بالآية اعتبار الصلاة وذبح الإمام . وأما قول أبي حنيفة فهو أليق بظاهر الآية . وأما قول الشافعي فإنه يخالف ظاهر الآية والحديث {[10872]} . وقد روي عن مالك أن من ذبح بعد الصلاة قبل ذبح الإمام أجزأه ، وهو ينحو إلى قول أبي حنيفة . وفي ظاهر الآية أن الإبل والبقر أفضل من الغنم في الضحايا ، وهو قول الشافعي ؛ لأنه تعالى أمر بالنحر ، والنحر إنما يكون فيهما . وقال مالك رحمه الله تعالى : الغنم أفضل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " خير الأضحية الكبش " {[10873]} ، وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم به . ويحمل الأمر بالنحر في الآية أن جعلناها في الضحية خارجا على ما كان الأكثر عندهم في ذلك الوقت وهو الإبل ، فلذلك خص النحر . وبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أن الغنم أفضل ، وأيضا فإنما فدي ابن إبراهيم عليهما السلام من الذبح بكبش {[10874]} .
وقيل في قوله تعالى : { فصل لربك وانحر ( 2 ) } : إنها نزلت يوم الحديبية وقت صلح قريش . قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : صل وانحر الهدي . وعلى هذا تكون الآية من المدني ، وهو قول ابن جبير {[10875]} . وقيل : إنما معنى الآية : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه {[10876]} . وفي هذا التأويل ضعف ؛ لأنه استعمل من اسم النحر فعلا ، ولم يسمع من العرب . وفي صحة نقله عن علي رضي الله تعالى عنه نظر .
وقد اختلف الفقهاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، فكره وأجيز واستحب . وعن مالك الروايات الثلاث . وحجة الاستحباب أو الجواز الآية على هذا التأويل . واختلف الذاهبون إلى ذلك أين يضع يديه إذا كانت كذلك . فمنهم من رأى تحت السرة {[10877]} ، ومنهم من رأى عند النحر . وفي الآية دليل لمن قال عند النحر على هذا التأويل . وقال بعضهم : صل : أمر بالصلاة . وانحر : ارفع يديك في استفتاح الصلاة عند نحرك . وقد اختلف الفقهاء أيضا في رفع اليدين ، فأجيز وكره واستحب . وفي المذهب الروايات الثلاث . وحجة الاستحباب والإجازة الآية على هذا التأويل . واختلف الذاهبون إلى ذلك أيضا إلى أين يرفع يديه ؟ فقيل : إلى الأذنين ، وقيل : إلى النحر ، وقيل : يرفع يديه من غير تحديد ، وذلك واسع . وحجة من رأى الرفع إلى النحر الآية على هذا التأويل . وقيل معنى الآية : استقبل القبلة بوجهك ونحرك .