– قوله تعالى : { والذين هم بشهاداتهم قائمون ( 33 ) } :
اختلف في معناه . فقيل هي شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل الشهادة عند الحكام . واختلف الذاهبون إلى ذلك في معناه . فقيل يحفظون ما يشهدون فيه وينعتونه ، وعلى هذا يأتي قوله عليه الصلاة والسلام : " على مثل الشمس فاشهد " {[10827]} . وقيل معناه : الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يداس أو حرمة لله تعالى تنتهك قاموا بشهادتهم . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " {[10828]} وتأوله الناس على القولين المتقدمين في الآية . وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارض ذلك قوله : " سيأتي على الناس زمان يخافون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن " {[10829]} فتأوله الناس على وجهين : أحدهما : أنهم قوم يتعرضون للشهادة ويحرصون على وضع أسمائهم في الوثائق وينصبون لذلك الحبائل من زي وهيأة وهم غير أهل للشهادة . فهذا في ابتداء الشهادة . وقال آخرون : وهم شهود الزور لأنهم لا يؤدونها والمشهود عليه لم يشهدهم . ففي الآية على ما قدمته من أحد التأويلين دليل على أن الذي ينبغي الإخبار بالشهادة قبل أن تسأل ، فظاهر ذلك العموم في كل شهادة . وقد قرئ : بشهادتهم ، وهو يعضد ذلك . إلا أنه قد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه ما كان من حقوق الله تعالى لا يستدام فيه التحريم كالزنا وشرب الخمر ، فهذا الذي ينبغي للشاهد أن لا يخبر بها قبل أن يسأل . واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهزال : " يا هزال هلا سترته بردائه " {[10830]} فيتخصص بدليل هذا الحديث عموم الآية وتبقى الآية عامة في غير ذلك من حقوق الله تعالى التي يستدام فيها التحريم كالعتق والطلاق والأحباس والمساجد والغنائم وما أشبههما وحقوق الآدميين . فيلزم الشاهد بها أن يخبر بشهادته ويقوم بها غيره . إلا أن في حقوق الآدميين إنما ينبغي أن يخبر بذلك صاحب الحق . وقد اختلف إذا قام الشاهد بشهادته عند الحاكم في مثل الطلاق والعتق وغيره قبل أن يسأل هل تبطل شهادته أم لا ؟ فذهب ابن القاسم إلى أنها تصح وهو أظهر على ألفاظ الآية والحديث المتقدم . واختلف إن سكت ولم يخبر بها هل تبطل شهادته أم لا ؟ فذهب ابن القاسم إلى أنها تبطل ، وظاهره في المبسوطة أنها لا تبطل . والآية – إن قيل فيها أنه تعالى إنما ذكر فيها أرفع الدرجات في الشهادة وأثنى بها {[10831]} على المذكورين في الآية – ففيها دليل أنها لا تبطل بالسكوت عليها . وإن قيل إنه تعالى إنما ذكرهم بأنهم يمنعون ما يجب عليهم ويأتون من ذلك ما هو الحق فظاهر الآية أنها تبطل .