الآية
إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( 4 )
التّفسير
الإِنسان بين يدي الله
في هذه الآية يتغيّر لحن السّورة ،إذ يبدأ فيها دعاء العبد لربّه والتضرّع إليه .الآيات السابقة دارت حول حمد الله والثناء عليه ،والإِقرار بالإِيمان والاعتراف بيوم القيامة ،وفي هذه الآية يستشعر الإِنسانبعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة الله في نفسه حضوره بين يدي الله ...يخاطبه ويناجيه ،يتحدث إليه أولا عن تعبّده ،ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .
بعبارة اُخرى: عندما تتعمق مفاهيم الآيات السابقة في وجود الإِنسان ،وتتنور روحه بنور ربّ العالمين ،ويدرك رحمة الله العامة والخاصة ،ومالكيته ليوم الجزاء ،يكتمل الإِنسان في جانبه العقائدي .وهذه العقيدة التوحيدية العميقة ،ذات عطاء يتمثل أوّلا: في تربية الإِنسان العبد الخالص لله ،المتحرر من العبودية للآلهة الخشبية والبشرية والشهوية ،ويتجلّى ثانياً: في الإِستمداد من ذات الله تبارك وتعالى .
الآيات السابقة تحدثت في الحقيقة عن توحيد الذات والصفات ،وهذه الآية تتحدث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال .
توحيد العبادة: يعني الإِعتراف بأن الله سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع ،وبالتشريع دون سواه ،كما يعني تجنب أي نوع من العبودية والتسليم ،لغير ذاته المقدسة .
وتوحيد الأفعال: هو الإِيمان بأن الله هو المؤثر الحقيقي في العالم ( لاَ مُؤَثِّرَ فَي الْوُجُودِ إلاَّ الله ) .وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب ،وتجاهل المسببات ،بل يعني الإِيمان بأن تأثير الأسباب ،إنّما كان بأمر الله ،فالله سبحانه هو الذي يمنح النار خاصية الاحراق ،والشمس خاصية الإِنارة ،والماء خاصية الإِحياء .
ثمرة هذا الاعتقاد أن الإِنسان يصبح معتمداً على ( الله ) دون سواه ،ويرى أن الله هو القادر العظيم فقط ،ويرى ما سواه شبحاً لا حول له ولا قوّة ،وهو وحده سبحانه اللائق بالإِتكال والاعتماد عليه في كل الأمور .
هذا التفكير يحرر الإِنسان من الإِنشداد بأي موجود من الموجودات ،ويربطه بالله وحده .وحتى لو تحرك هذا الإِنسان في دائرة استنطاق عالم الأسباب ،فإنما يتحرك بأمر الله تعالى ،ليرى فيها تجلّي قدرة الله ،وهو «مُسَبِّبُ الأَسْبَابِ » .
هذا المعتقد يسمو بروح الإِنسان ويوسّع آفاق فكره ،ليرتبط بالأبدية واللانهاية ،ويحرر الكائن البشري من الأطر الضيقة الهابطة .
1هو المستعان وحده
تقدم المفعول على الفاعل يفيد الحصركما يذكر أصحاب اللغة،وتقدم «إِيّاك » على «نَعْبُدُ » يدلّ على الحصر ،أي أننا نعبدك دون سواك ،ونتيجة هذا الحصر ،هو توحيد العبادة وتوحيد الأفعال .
نعم ،نحن محتاجون إلى عونه حتى في العبودية والطاعة ،ولذلك ينبغي أن نستعين به في ذلك أيضاً ،كي لا تتسرب إلى أنفسنا أوهام العجب والرياء وأمثالها من الإِنحرافات التي تجهض عبوديتنا .
بعبارة اُخرى: حين نقول ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) فان هذه الجملة يشم منها رائحة الاستقلالية ،لذلك نتبعها مباشرة بعبارة ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ،كي نجسّم حالة الأمر بين الأمرين ( لاَ جَبْرَ وَلا تَفْويضَ ) ،في عباداتنا ،ومن ثمّ في كل أعمالنا .
2استعمال صيغ الجمع في تعبير الآيات
كلمة «نَعْبُدُ » و«نَسْتَعِينُ » بصيغة الجمع تشير إلى أن العبادةخاصة الصلاةتقوم على أساس الجمع والجماعة .وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة ،حتى حين يقف متضرّعاً بين يدي الله ،فما بالك في المجالات الاُخرى !
وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإِسلام لكل ألوان الفردية والإِنعزال .
الصلاة خاصةابتداء من اذانها وإقامتها حتى تسليمهاتدل على أن هذه العبادة هي في الأصل ذات جانب إجتماعي ،أي أنها ينبغي أن تؤدّى بشكل جماعة .صحيح أن الصلاة فرادى صحيحة في الإسلام ،لكن العبادة الفردية ذات طابع فرعي ثانوي .
3الاستعانة به في كل الأمور
يواجه الإِنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية ( في نفسه ) ،وخارجية ( في مجتمعه ) ،ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون والمساعدة ،ومن هنا يلزم على الإِنسان عندما ينهض صباحاً أن يكرر عبارة ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )ليعترف بعبوديته لله سبحانه ،وليستمد العون منه في مسيرته الطويلة الشاقة .وعندما يجنّ عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلاّ بعد تكرار هذه العبارة أيضاً .والإِنسان المستعين حقّاً ،هو الذي تتضاءل أمام عينيه كلّ القوى المتجبّرة المتغطرسة .وكل الجواذب المادية الخادعة ،وذلك ما لا يكون إلاّ حينما يرتفع الإِنسان إلى مستوى القول: ( إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعْالَمِينَ ){[54]} .