ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية ،والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول: ( وقال موسى يا قوم ...) أي إِنّه خاطب المؤمنين ب «قومي » .
الإِشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير ،هو أنّ جميع بني إِسرائيل قد آمنوا بموسى ،لا جماعة منهم .
إِلاّ أنّ هذا الإِيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة ،وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إِليها ،فإِضافة إِلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة ،فإِنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى ،علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأُمور المادية التي تدعو الكبار إِلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأُخرى ،فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها ،ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه .
بناءً على هذا ،فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إِلى موسى ،وتعبير «الذريّة » يناسب هذا المعنى جدّاً .
هذا إِضافةً إِلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك ،وكانوا ضعفاء وعاجزين ،وهذا التعبيركما نقل عن ابن عباسفي حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول: اذهب وادعُ الأولاد ،بالرغم من أنهم قد يكونون كباراً ،وإِذا لم نتفق وهذا المعنى للآية ،فإِنّ الاحتمال الأوّل يبقى على قوته .
إِضافةً إِلى أن الذرية وإِن كانت تطلق عادة على الأولاد ،إلاّ أنّها من ناحية الأصل اللغويكما يقول الراغب في المفرداتتشمل الصغير والكبير .
والملاحظة الأُخرى التي ينبغي الالتفات إِليها هنا ،هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة ( أن يفتنهم ) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإِرعاب والتعذيب ،أو بمعنى آخر إِيجاد مختلف المصاعب والعراقيل أمامهم سواء كانت دينية أو غير دينية .
على كل حال ،فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم: ( وقال موسى يا قوم إِن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إِن كنتم مسلمين ) .
إِنّ حقيقة التوكل هي إِلقاء العمل والتصرف في الأُمور على كاهل الوكيل ،وليس معنى التوكل أن يترك الإِنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول: إِنّ الله معتمدي وكفى ،بل معناه أن يبذل قصارى جهده ،فإِذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه ،فلا يدع للخوف طريقاً إِلى نفسه ،بل يصمد أمامها بالتوكل والاعتماد على لطف الله والاستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية ،ويستمر في جهاده المتواصل ،وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإِنّه لا يرى نفسه مستغنياً عن الله ،لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية .
هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإِيمان والإِسلام ،لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء ،وكل عسير مقابل إِرادته سهل يسير .ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر .