وهكذا طُوي سجلّ وطومار حياتهم ( كأنّ لم يغنوا فيها ) .وانطفأ بريق كل شيء ،فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم .
وكما كانت نهاية عاد وثمودوقد حكى عنهما القرآنفهو يقول عن نهاية مدين أيضاً ( ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود ) .
وواضح أنّ المقصود من كلمة «مدين » أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين .
دروس تربوية في قصّة شعيب:
إِنّ أفكار الأنبياء والوقائع التي جرت للأقوام السابقة تستلهم منها الأجيال التي بعدها ،لأنّ تجارب حياة أُولئك الأقوام هي التي تمخضت عن عشرات السنين أو مئات السنين ...ثمّ نُقلت إِلينا في عدّة صفحات من «التاريخ » وكل فرد منّا يستطيع أن يستلهم العبر في حياته .
قصّة هذا النّبي العظيم «شعيب » فيها دروس كثيرة ،ومن هذه الدروس ما يلي:
1أهمية المسائل الاقتصادية
قرأنا في هذه القصّة أنّ شعيباً دعا قومه بعد التوحيد إلى الحق والعدالة في الأُمور المالية والتجارية ،وهذا نفسه يدل على أنّ المسائل الاقتصادية في المجتمع لا يمكن تجاوزها وتهميشها .كما يدل على أنّ الأنبياء لم يؤمروا بالمسائل الأخلاقية فحسب ،بل كانت دعوتهم تشكل «الإِصلاح » ...إِصلاح الوضع الاجتماعي غير الجيد ،وإِصلاح الوضع الاقتصادي كذلك ،حيث كانت هذه الأُمور من أهم الأُمورعند الأنبياءبعد التوحيد .
2لا ينبغي التّضحية بالأصالة من أجل التعصب
كما قرأنا في هذه القصّة فإنّ أحد العوامل التي دعت إلى سقوط هؤلاء في أحضان الشقاء أنّهم نسوا الحقائق لحقدهم وعدائهم الشخصي ،في حين أنّ الإِنسان العاقل والواقعي ينبغي أن يتقبل الحق من كل أحد حتى ولو كان من عدوّه .
3الصلاة تدعو إلى التوحيد والتطهير
لقد سأل شعيباً قومُه ( أصلاتُك تأمُرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) وأن نترك الغش وعدم إِيفاء الميزان حقّه .فلعلهم كانوا يتصورون متساءلين: إِنَّ هذه الأذكار والأدعية ما عسى أن تؤثر في هذه الأُمور ؟على حين أنّنا نعرف أن أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين الصلاة وهذه الأُمور ،فإذا كانت الصلاة بمعناها الواقعي أي مع حضور الإنسان بجميع وجوده أمام الله فإنّ هذا الحضور معراج التكامل وسلّم الصعود في تربية روحه ونفسه ،والمطهّر لصدأ ذنوبه ورين قلبه وهذا الحضور يقوّي إِرادته ويجعل عزمه راسخاً وينزع عنه غروره وكبرياءه .
4النظرة الذاتيّة ( الأنانيّة ) رمزٌ للجمود !
لقد كان قوم شعيبكما عرفنا في الآيات السابقةأفراداً أنانيين و«ذاتيين » إِذ كانوا يتصورون أنفسهم ذوي فهم ،وأنّ شعيباً يجهل الأُمور !!وكانوا يسخرون منه ويعدّون كلامه بلا محتوى ويرونه ضعيفاً ،وهذه النظرة الضيقة والأنانية صيّرت سماء حياتهم مظلمة ورمت بهم إلى هاوية الهلاك .
ليس الإِنسان وحدهبل حتى الحيوانإذا كان «أنانيّاً » ذا نظرة ضيقة فإنّه سيتوقف في الطريق !!
يقال إنّ فارساً وصل إلى نهر وأراد عبوره ولكنّه لاحظ بتعجب أنّ الفرس غير مستعدّة أن تعبر النهر الصغير والقليل العمق ،وكلما الحّ على الفرس لكي تعبر لم يُفلح ،فمرّ به رجل حكيم ،فقال له: حرّك ماء النهر ليذهب فإنّ المشكلة ستنحلّ .ففعل ذلك فعبرت الفرس النهر بكل هدوء !!فسأل الحكيم عن السرّ في ذلك ،فقال: حين كان الماء صافياً كانت صورة الفرس في الماء فلم يَرُق للفرس أن تطأ نفسها ،وحين اختلط الماء بالطين ذهبت الصورة ونسيت الفرس صورتها فعبرت بكل بساطة !
5تلازم الإِيمان والعمل
لا يزال الكثيرون يتصورون أنه يمكن للمسلم أن يكون بالعقيدة وحدها مسلماً حتى وإِن لم يقم بأيّ عمل ،وما يزال الكثيرون يريدون من الدين ألاّ يكون مانعاً لرغباتهم وميولهم ،ويريدون أن يكونوا أحراراً بوجه مطلق .
قصّة شعيب تدلنا على أنّ قومه كانوا يريدون مثل هذا المنهج ،لذلك كانوا يقولون له: نحن غير مستعدين أن نترك ما كان عليه السلف من عبادة الأصنام ،ولا نفقد حريتنا في التصرف بأموالنا ما نشاء .
لقد نسي أُولئك أنّ ثمرة شجرة الإِيمانأساساًهي العمل ،وكان نهج الأنبياء أن يصلحوا الانحرافات العمليّة للإِنسان ويسددوا خطواته ،وإِلاّ فإنّ شجرة بلا ثمر وورق وفائدة عملية لا تستحق إِلاّ أن تُحرق !
نحن اليوموللأسفنرى بعض المسلمين قد غلب عليهم هذا الطراز من الفكر ،وهو أنّ الإِسلام عبارة عن عقائد جافّة لا تتعدّى حدود المسجد ،فما داموا في المسجد فهي معهم ،وإذا خرجوا ودّعوها فيه !!فلا تجد أثراً لإِسلامهم في السوق أو الإِدارات أو المحيط .
إِنّ السير في كثير من الدول الإِسلاميةحتى الدول التي كانت مركزاً لانتشار الإِسلاميكشف لنا هذا الواقع المرير ،وهو أنّ الإِسلام منحصر في حفنة من «الاعتقادات وعدد من العبادات عديمة الروح » لا تجد فيها أثراً عن المعرفة والعدالة الاجتماعية والنمو الثقافي والأخلاق الإِسلاميّة ....
ولكنلحسن الحظنرى في ضمن هذه الصحوة الإسلامية ولا سيما بين الشباب تحرّك نحو الإِسلام الصحيح والممازجة بين الإِيمان والعمل ،فلا تكاد تسمع في هذا الوسط مثل هذا الكلام «ما علاقة الإسلام بأعمالنا ؟!» أو أنّ «الإِسلام مرتبط بالقلب لا بالحياة والمعاش » وما إلى ذلك .
الأطروحة التي نسمعها من بعض المنحرفين بقولهم: نحن نستوحي عقيدتنا من الإِسلام واقتصادنا من ماركس ،هي شبيهة بطريقة تفكير قوم شعيب الضالين وهي محكومة مثلها أيضاً ،ولكن هذا الانفصال أو التفرقة بين العمل والإِيمان كان موجوداً منذ القدم ولا يزال ،وينبغي أن نكافح مثل هذا التفكير !
6الملكية غير المحدودة أساس الفساد
لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون أنّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قِبَل مالكيها ،ولذلك تعجبوا من شعيب وقالوا له: أمثلك وأنت الحليم الرشيد يمنعنا من التصرف بأموالنا ويسلب حريتنا منها ،إِنّ هذا الكلام سواء كان على نحو الحقيقة والواقع ،أم كان على نحو الاستهزاء ،يَدّل على أنّهم كانوا يرون تحديد التصرّف بالمال دليلا على عدم العقل والدارية .
في حين أنّهم كانوا على خطأ كبير في تصورهم هذا ...إِذ لو كان الناس أحراراً في التصرّف بأموالهم لعمّ المجتمع الفساد والشقاء ،فيجب أن تكون الأُمور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس ،وإِلاّ فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الانحراف والفساد .
7هدف الأنبياء هو الإِصلاح
لم يكن هذا الشعار: ( إِنّ أُريدُ إِلا الإِصلاح ) شعار شعيب فحسب ،بل هو شعار جميع الأنبياء وكل القادة المخلصين ،وإِنّ أعمالهم وأقوالهم شواهد على هذا الهدف .فهم لم يأتوا لإِشغال الناس ،ولا لغفران الذنوب ،ولا لبيع الجنّة ،ولا لحماية الأقوياء وتخدير الضعفاء من الناس ،بل كان هدفهم الإِصلاح بالمعنى المطلق والوسيع للكلمة ...الإِصلاح في الفكر ،الإِصلاح في الأخلاق ،الإِصلاح في النظم الثقافية والاقتصادية والسياسيّة للمجتمع ،والإِصلاح في جميع أبعاد المجتمع .
وكان اعتمادهم ودعامتهم على تحقق هذا الهدف هو الله فحسب ولهذا لم يخافوا من التهديدات والمؤامرات كما قال شعيب ( وما توفيقي إِلا بالله عليه توكلت وإلِيه أنيب ) .