أجلْ ،لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء ،وكان قلبه يفيض همّاً لأنّ الظروف لم تتهيأ له بعدُ .فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها ،يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: ( ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين ) .
كلمة «أشدّ » مشتقّة من مادة «شدّ » وتعني فتل العقدة باستحكام ...وهي هنا إِشارة إلى الاستحكام الجسماني والروحاني .
قال بعضهم: إِنّ هذه الكلمة جمع لا مفرد لها ...ولكن البعض الآخر قال: إِنّها جمع ( شدّ ) على وزن ( سدّ ) ولكن معناها الجمعي غير قابل للإِنكار على كل حال !
المراد من «الحكم » و«العلم » الواردين في الآية المتقدمة التي تقول: ( ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً ...) إِمّا أن يكون مقام النبوّة كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ،وإِمّا أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والإِشتباه .والمراد من العلم الإِطلاع الذي لا يقترن معه الجهل ،ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه ،وجميع هذه الصفات مجتمعة في كلمة «المحسنين » .
قال بعض المفسّرين: هناك ثلاثة احتمالات لمعنى كلمتي ( الحكم والعلم ) الواردتين في الآية ،وهي:
1إِنّ الحكم إِشارة إلى مقام النبوة ( لأنّ النّبي حاكم على الحق ) والعلم إِشارة إلى علم الدين .
2إِن الحكم يعني ضبط النفس إِزاء الهوى والميول النفسيّة ،وهو هنا إِشارة إلى الحكمة العملية .والعلم إِشارة إلى العلم النظري ...وتقديم الحكم على العلم هنا لأنّ الإِنسان إِذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناءً صحيحاً لا يصل إلى العلم الصحيح .
3إِنّ الحكم معناه أن يبلغ الإِنسان مقام «النفس المطمئنة » ويتسلّط على نفسه بحيث يستطيع أن يتملك زمام النفس الأمّارة ووسوستها ...والمراد من العلم هو الأنوار القدسيّة وأشعة الفيض الإِلهي الذي تنزل من عالم الملكوت على قلب الإِنسان الطاهر{[1865]} .
/خ22