التّفسير
في قصر عزيز مصر:
انتهت حكاية يوسف مع إِخوته الذين ألقوه في غيابة الجبّ وبيّناها تفصيلا ،بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر ...فقد جيء بيوسف إلى مصر وعرض للبيع ،ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب «عزيز مصر » الذي كان وزيراً لفرعون أو رئيساً لوزرائه ،لأنّه كان يستطيع أن يدفع قيمة أعلى لغلام ممتاز من جميع الجهات ،والآن لنَر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر .
يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: ( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ){[1864]} فلا ينبغي أن تنظري إليه كما ينظر إلى العبيد .
يستفاد من سياق الآية أنّ عزيز مصر لم يرزق ولداً وكان في غاية الشوق للولد ،وحين وقعت عيناه على هذا الصبيّ الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده .
ثمّ يضيف القرآن الكريم ( وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ) .
هذا «التمكين » في الأرض إِمّا أن يكون لمجيء يوسف إلى مصر ،وخاصّة أن خطواته ،في محيط مصر مقدّمة لما سيكون عليه من الاقتدار والمكانة القصوى ،وإِمّا أنّه لا قياس ،بين هذه الحياة في مصر «العزيز » وبين تلك الحياة في غيابة الجبّ والوحدة والوحشة .فأين تلك الشدّة من هذه النعمة والرفاه !
ويضيف القرآن أيضاً ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) .
المراد من «تأويل الأحاديث »كما أشرنا سابقاًهو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله ،أو المراد منه الوحي لأنّ يوسف مع عبوره من المضائق الصعبة والشدائد القاسية ونجاحه في الاختبارات الإِلهية في قصر عزيز مصر ،نال الجدارة بحمل الرسالة والوحي .ولكن الاحتمال الأوّل أقرب كما يبدو للنظر .
ثمّ يختتم القرآن هذه الآية بالقول: ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
إِنّ واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأُمور كلها أن يدعفي كثير من المواردأسباب موفقيه الإِنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في مسألة يوسف( عليه السلام ) ،فلولا خطة إِخوته لم يصل إلى الجبّ أبداً ،ولو لم يصل إلى الجبّ لما وصل إلى مصر ،ولو لم يصل إلى مصر لما ذهب إلى السجن ولما كان هناك أثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيزَ مصر !
ففي الحقيقة إِن الله أجلس يوسف على عرش الإِقتدار بواسطة إِخوته الذين تصوروا أنّهم سيقضون عليه في تركهم إِيّاه في غيابة الجُبِّ .
لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد ،الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة ...فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة أُخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ...ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك !
/خ22