/م21
{ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه} لم يبين القرآن اسم الذي اشتراه من السيارة في مصر ولا منصبه ولا اسم امرأته لأن القرآن ليس كتاب حوادث وتاريخ ، وإنما قصصه حكم ومواعظ وعبر وتهذيب ، ولكن وصفه النسوة فيما يأتي بلقب العزيز وهو اللقب الذي صار لقب يوسف بعد أن تولى إدارة الملك في مصر فالظاهر لقب أكبر وزراء الملك ، وللمفسرين أقوال في اسمه واسمها واسم ملك مصر ليس للقرآن شأن فيها .وفي سفر التكوين أنه كان رئيس الشرطة وحامية الملك وناظر السجون ، وأن اسمه فوطيفار ، ووصف فيه بالخصي ولكن الخصيان لا يكون لهم أزواج فقيل في تصحيحه لعله لقب لا يقصد به هذا المعنى .
وقد تفرس هذا الوزير الكبير في يوسف أصدق الفراسة إذ وصى امرأته بإكرام مثواه ، والمثوى مصدر واسم مكان من ثوى بالمكان يثوي [ كرمى يرمي] ثواء أي أقام ، فتضمنت هذه الوصية إكرامه وحسن معاملته في كل ما يختص بإقامته بحيث يكون كواحد منهم ولا يكون كالعبيد والخدم ، وعلل ذلك بما يدل على أمله ورجائه فيه وهو{ عسى أن ينفعنا} بالقيام ببعض شؤوننا أو شؤون الدولة العامة لما يلوح عليه من مخايل الذكاء والنباهة{ أو نتخذه ولدا} فيكون قرة عين لنا ، ووارثا لمجدنا ومالنا ، إذا تم رشده وصدقت فراستي في نجابته ، وفهم من هذه الرجاء أن العزيز لم يكن له ولد وما كان يرجو أن يكون له ، وروي أنه كان عقيما .وكان رجاؤه هذا كرجاء امرأة فرعون موسى فيه من بعده ، وكانت صالحة ملهمة ، وأما العزيز فكان ذكيا صادق الفراسة فاستدل من كمال خلق يوسف وخلقه ، وذكائه وحسن خلاله ، على أن حسن عشرته وكرم وفادته وشرف تربيته ، خير متمم لحسن استعداده الفطري ، إذ لا يفسد أخلاق الأذكياء إلا البيئة الفاسدة وسوء القدوة ، وما كان إلا صادق الفراسة .
{ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} أي وعلى هذا النحو من التدبير والتسخير جعلنا ليوسف مكانة عالية في أرض مصر كان هذا العطف عليه والرجاء فيه من هذا العزيز مبدأها ليقع له في بيته ثم في السجن ما يقع من التجارب والاتصال بساقي الملك فيكون وسيلة للوصول إليه{ ولنعلمه من تأويل الأحاديث} كتعبير الرؤيا ومعرفة حقائق الأمور ما ينتهي به إلى الغاية من هذا التمكين ، وقوله للملك{ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} وقول الملك له{ إنك اليوم لدينا مكين أمين} .
{ والله غالب على أمره} أي على كل أمر يريده ويقدره فلا يغلب على شيء منه بل يقع كما أراد ، فكل ما وقع ليوسف من إخوته ومن مسترقيه وبائعيه ومن توصية الذي اشتراه لامرأته بإكرام مثواه ومما وقع له مع هذه المرأة وفي السجن قد كان من أسباب ما أراده تعالى له من تمكينه في الأرض ، وإن كان ظاهره على خلاف ذلك ، ويجوز أن يكون المعنى والله غالب على أمر يوسف ، فهو يدبره ويلهمه الخير ، ولا يكله إلى تدبير نفسه وإتباع هواه ،{ ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنه تعالى غالب على أمره ، بل يأخذون بظواهر الأمور ، كما استدل إخوة يوسف بإبعاده على أن يخلو لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعد بعده عنهم قوما صالحين .ويقابل الأكثر في هذا المقام يعقوب عليه السلام ، فقد كان يعلم أن الله غالب على أمره ، وأقواله صريحة في الدلالة على علمه ما تقدم منها وما تأخر في هذه القصة ، ولكن علمه كلي إجمالي لا يحيط بتفصيل الجزئيات المخبوءة في مطاوي الأقدار كما قلنا من قبل .