/م16
ويضيف في الآية التالية: ( وحفظناها من كل شيطان رجيم إِلاّ من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين ) .
الآية المذكورة ،من الآيات التي أُشبعت شرحاً وتفسيراً من قبل المفسّرين ،وكلٌ منهم قد نحى منحىً خاصاً في فهم معناها .
وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات ( الآيتان 6 و 7 ) وكذلك في سورة الجن الآية ( 9 ) .
وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلةً لم يُسْعَفوا بالإِجابة عنها ،فكان لزاماً علينا في بادئ الأمر أن نلقي نظرة إلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده ،ومن ثمّ نعرج إلى ما نراه راجحاً من هذه الآراء:
1بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير ( في ظلال القرآن ) قد اكتفوا بالتّفسير الإِجمالي ولم يغوصوا إلى كثير من التفاصيل ،ولم يعيروا أهميةً لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إِدراكها ،وما علينا إِلاّ أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه إلى الحق .
فكتب يقول: وما الشيطان ؟وكيف يحاول استراق السمع ؟وأي شيء يسترق ؟..
كل هذا غيب من غيب اللّه لا سبيل لنا إِليه إِلاّ من خلال النصوص ،ولا جدوى في الخوض فيه ،لأنّه لا يزيد شيئاً في العقيدة ولا يثمر إِلاّ انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه ،وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة ،ثمّ لا يضيف إِليه إِدراكاً جديداً لحقيقة جديدة{[2023]} .
وينبغي التنويه هنا إلى أنّ القرآن كتابٌ سماوي جاء لتوجيه الإنسان إلى الحق ،وهو كتابُ حياة وتربية ،فإِن كان فيه ما لا يخص الحياة الإنسانية فمن الأُولى أن لا يطرح أصلا ،وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرّباني ،وكلُّ ما فيه دروس لنا ومنهجٌ قويم للحياة .
والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمرٌ مرفوض ..أوَ ليس القرآن كتاب نور ،وكتاباً مبيناً ؟!أوَ لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه ؟!فكيف إِذن ..لا يهمنا فهم بعض آياته ؟!
وبكلمة: فإنّ هذا التّفسير مرفوض .
2يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين ( وخصوصاً القدماء منهم ) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات .
فالسماء هي هذه السماء ،والشهاب هو ما نراه ونسميه شهاباً ( أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء ،وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجةً لاحتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها ) .
والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع ،ولكنّه يُمنع من الوصول إلى هدفه برميه بالشهب{[2024]} .
3وذهب جمع من المفسّرين مثل العلاّمة الطّباطبائي في ( تفسير الميزان ) والطنطاوي في تفسير ( الجواهر ) إلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال ،أو ما يسمّى ب ( البيان الرمزي ) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة:
ألف: نقرأ في تفسير الميزان: ( أورد المفسّرون أنواعاً من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب ،وهي مبينة على ما سبق إلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار ،إِنّ هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إِلاّ منها ،وإِنّ في السماء الأُولى جمعاً من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب .
وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء .
ويحتملواللّه العالمأنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس ،وهو القائل عزَّ وجلّ في سورة العنكبوت ( 43 ): ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إِلاّ العالمون ) ،وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب .
وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالماً ملكوتياً ذا أفق أعلى ،نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض ،والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للإِطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت{[2025]} .
بوالطنطاوي في تفسيره المعروف ،هكذا يرى: ( إِنّ العلماء المحتالين المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة ،وما يحكمها من نظم وحساب دقيق ،فإِنّ اللّه تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار مَنْ له عقل ونباهة وإِخلاص وإِيمان ،ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء ،فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإِلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم ،وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق ،ومتى ما اقترب منها طرد عنها ،فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبداً ،لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق ،أليس العلم لا يناله إِلاّ عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إِليه إِلاّ عرفاؤه{[2026]} ؟!
ويقول في مكان آخر: ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية ،فيكون المنع الحسي رمزاً للمنع العقلي ،والكناية من أجمل أنواع البلاغة ،ألاّ ترى أن كثيراً من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض ،غائبةٌ أبصارهم ،لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب ،مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية{[2027]} ،وإِن أصيب أحَدٌ بهذه الأهواء يوماً بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإِنّه سيطرد أيضاً .
جوله كلام في مكان آخر ،خلاصته: تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا ،وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أُمور واقعة ودقيقة جدّاً ،ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض الأمور ،لأنها لا تنقل بدقة إِلا ما هو ضمن عالمها المحدود ،ولا يمكنها أن تصل إلى عالم أعلى منها ،فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي ،كذلك هذه الأرواح فإِنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها .
دوقال بعض آخر: أظهرت الاكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد ،ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة ،وإِنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا ،إِلاّ أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنياً فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم ،وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا ،ولكنّ الجن تسعى للاستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إلى أهل الأرض{[2028]} .
كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة .