التّفسير
وإِتماماً لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق ،ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة ،ويبدأ بنفس الأرض ( والأرض مددناها ) .
«المد » ،في الأصل بمعنى: التوسعة والبسط ،ومن المحتمل أن يراد به إِخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء ،لأنّ سطح الأرض ( كما هو معلوم ) كان مغطىً بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة ،واستقرت المياه على سطح الأرض بعد أن مرّت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار ،وبشكل تدريجي ظهرت اليابسة من تحت الماء ،وهو ما تسمّيه الرّوايات ب «دحو الأرض » .
ثمّ يتطرق إلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد ( وألقينا فيها رواسي ) .
عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإِلقاء ،ولعل المراد ب «إلقاء » هنا بمعنى ( إِيجاد ) لأنّ الجبال هي الارتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي ،أو من المواد البركانية .
ومن بديع خلق الجبال إِضافةً إلى كونها أوتاداً لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي ،فإِنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف ،بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه ،ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون .
واستعمال كلمة «رواسي » جمع ( راسية ) بمعنى الثابت والراسخ ،إِشارة لطيفة لما ذكرناه .
فهي: ثابتة بنفسها ،وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإنسانية عليها .
ثمّ ينتقل إلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية ،ألاَ وهو النبات ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) .
ما أجمل هذا التعبير وأبلغه !«موزون » من مادة ( وزن ){[2029]} ،ويشير بذلك إلى: الحساب الدقيق ،النظام العجيب ،والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات ،وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من الساق ،الغصن ،الورقة ،الوردة ،الحبة وحتى الثمرة .
يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات ،وكل تحمل خواصاً معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها ،وهي بابُ بمعرفة واسع وصولا لمعرفة البارئ المصور جل شأنه ،وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق .
وقد ذهب البعض إلى أن المقصود هو إِحداث المعادن والمناجم المختلفة في الجبال ،لأنّ كلمة «إِنبات » تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضاً .
وقد وردت الإِشارة في بعض الرّوايات لهذا المعنى ،ففي رواية عن الإِمام الباقر ( عليه السلام ) عندما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شيء موزون ،أنّه قال: «فإنّ اللّه تبارك وتعالى انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لا يباع إِلاّ وزناً »{[2030]} .
وهناك من ذهب إلى أن المقصود من الإِنبات في الآية إلى معنىً أوسع يشمل جميع المخلوقات على هذه الأرض ،كما يشير إلى ذلك نوح ( عليه السلام ) حين مخاطبته قومه ( واللّه أنبتكم من الأرض نباتاً ){[2031]} .
وعليه ،فليس هناك ما يمنع من إِطلاق مفهوم الإِنبات في الآية ليشمل النبات والبشر والمعادن ...الخ .