التّفسير
سجود الكائنات للّه عزَّ وجلّ:
تعود هذه الآيات مرّة أُخرى إلى التوحيد بادئةً ب: ( أوَلم يروا إلى ما خلق اللّه من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سُجّداً للّه وهم داخرون ){[2088]} .
أيْ: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات اللّه يميناً وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه ؟!
ويقول البعض: إِنّ العرب تطلق على الظلال صباحاً اسم ( الظل ) وعصراً ( الفيء ) ،وإِذا ما نظرنا إلى تسمية ( الفيء ) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إِشارة لطيفة لحقيقة ..إِنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أنْ تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر .
ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ،وإِنّ كلمة الفيء استعملت للجميع ..فيستفاد من ذلك: أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال .
فعندما يقف الإِنسان وقت طلوع الشمس متجهاً نحو الجنوب فإِنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ،فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه ( جهة الغرب ) ،ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر ،وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة ( اليسرى ) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ،ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس .
وهنا ..يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يميناً وشمالا بعنوانها مظهراً لعظمته جل وعلا واصفاً حركتها بالسجود والخضوع .
أثر الظِلال في حياتنا:
ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ،ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ،فوضع القرآن الكريم إِصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها .
للظلال ( التي هي ليست سوى عدم النّور ) فوائد جمّة:
1كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ،فكذلك الظلال ،لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس .
إِنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ،وبدون الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة .
2وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ،ألاَ وهو: إِنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ،بل لابدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي .
وبعبارة أُخرى: إِنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ،فإِنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور .،
أيْ: كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القاتمة ،فكذا الحال بالنسبة للنور التام ،ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة ( النّور والظلال ) .
وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّاً في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزهافتأمل .
وثمّة ملاحظة أُخرى في الآية: وهي: ورود «اليمين » بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل » .
فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجهاً للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق{[2089]} .
واحتمل المفسّرون أيضاً: مع أن كلمة ( اليمين ) مفرداً إِلاّ أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ،وهي في هذه الآية تدل على الجمع{[2090]} .
وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ،