/م53
الأحسن مِن حيثُ المحتوى وَالبيان ،والأحسن مِن حيث التلازم بين الدليل وَمكارم الأخلاق والأساليب الإنسانية ،وَلكن لماذا يستعمل هَذا الأُسلوب مَع المعارضين ؟
الجواب: إِذا ترك الناس القول الأحسن واتبعوا الخشونة في الكلام والمجادلة ف ( إِنَّ الشيطان ينزغ بينهم ) ويثير بينهم الفتنة والفساد ،فلا تنسوا: ( إِنَّ الشيطانَ كانَ للإِنسان عدوّاً مبيناً ) .
أمّا مَن هم ( العباد ) المقصودون في هَذِهِ الآية ؟
في صدد الجواب هُناك رأيان مُختلفان بين المفسّرين ،وَكل رأي مدعم بالقرائن التي تؤيدهُ ؛هَذان الرأيان هما:
أوّلا: المقصود مِن ( عبادي ) هُم عبيده المشركون ،إِذ بالرغم مِن أنّهم سلكوا طريقاً خاطئاً ،إِلاَّ أنّ الله تبارك وَتعالى يناديهم ( عبادي ) وَذلكَ مِن أجل إِثارة عواطفهم الإِنسانية ،وَيدعوهم إلى ( القول الأحسن ) ويعني هُنا كلمة التوحيد وَترك الشرك وَمراقبة أنفسهم مِن وسواس الشيطان ،وهكذا يكون الهدف مِن هَذِهِ الآياتبعد ذكر أدلة التوحيد والمعادهو النفوذ إلى قلوب المشركين حتى يستيقظ ذوي الاستعداد مِنهم .
الآيات التي تلي هَذِهِ الآيةكما سيأتيتُناسب هَذا المعنى ،وَكون هَذِهِ السورة مكّية يرجح هَذا الرأي ،إِذ لم يكن الجهاد قد فرضَ بعد وَكانت الدعوة بالمنطق والأُسلوب الحسن فقط هي المأمور بها .
ثانياً: كلمة ( عبادي ) خطاب للمؤمنين ،حيث تعلّمهم الآية أُسلوب النقاش مَع الأعداء ،فقد يحدث في بعضِ الأحيان أن يتعامل المؤمنون الجُدد بخشونة مَع معارضي عقيدتهم وَيقولون لهم بأنّهم مِن أهل النّار والعذاب ،وأنّهم ضالون ،وَيعتبرون أنفسهم مِن الناجين ،قد يكون هَذا الموقف سبباً في أن يقف المعارضون موقفاً سلبياً إِزاء دعوة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
إضافة لذلك ،فإنّ الاتهامات التي يطلقها المشركون ضدَّ شخص رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وَيتهمونه فيها بالسحر والجنون والكهانة والشعر ،قد تكون سبباً في أن يفقد المؤمنون السيطرة على أنفسهم وَيبدأوا بالتشاجر مَع المشركين وَيستخدموا الألفاظ الخشنة ضدَّهم ...القرآن يمنع المؤمنين مِن هَذا العمل وَيدعوهم إلى التزام اللين والتلطَّف بالكلام واختيار أفضل الكلمات في أُسلوب التخاطب ،حتى يأمنوا مِن إِفساد الشيطان .
كلمة ( بينهم ) وُفقاً لهذا الرأي توضح أنَّ الشيطان يحاول زرع الفساد بين المؤمنين وَمَن يخالفهم ؛أو أنَّهُ يحاول النفوذ إلى قلوب المؤمنين لإِفسادها «ينزغ » مُشتقة مِن «نزغ » وتعني الدخول إلى عمل بنيّة الإفساد .
بملاحظة مجموع هَذِهِ القرائن يتبيّن لنا أنَّ التّفسير الثّاني ينطبق مَع ظاهر الآية الكريمة أكثر مِن التّفسير الأوّل ،لأنَّ كلمة ( عبادي ) في القرآن تستخدم عادة لمخاطبة المؤمنين ،إِضافة إلى أن سبب نزول الآية يُؤيد هَذا المعنى وَيدعم هَذا التّفسير ،إِذ ينقل بعض المفسّرين أنَّ المشركين كانوا يُؤذون أصحاب الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكّة وَيضيِّقون عليهم ،وَفي أثناء ذلك كان بعضهم يَأتي إلى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستأذنَهُ وَيلح عليه في مُواجهة المشركين بالمثل ( على الأقل الرد عليهم بألفاظ شديدة تناسب ألفاظ المشركين ) والبعض يطلب الإِذن بالجهاد ،وَلكن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانَ يبيّن لهم بأنّه لم يُؤذَن له بعد القيام بهَذِهِ الأعمال .وَفي هَذِهِ الأثناء نزلت الآيات أعلاه تؤكّد بأنْ التكليف مازال يتمثل في استمرار الدعوة بالكلام ،والمجادلة باللطف وبالتي هي أحسن{[2218]} .