التّفسير
لا استعجال في العقاب الإِلهي:
الآيات السابقة كانت تتحدَّث عن مجموعة مِن الكافرين المُتعصبين والمظلمة قلوبهم ؛والآيات التي بين أيدينا تستمر في نفس البحث ،ففي البداية قوله تعالى: ( ومَن أظلم ممن ذكّر بآيات ربَّه فأعرضَ عنها ونسي ما قدَّمت يداه ) .
إِنّ استخدم تعبير ( ذكّر ) يوحي إلى أنَّ تعليمات الأنبياء( عليهم السلام ) هي بمثابة التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإِنسان ،وإِنَّ مهمّة الأنبياء هي رفع الحجب عن نقاء وشفافية هذه الفطرة .
هذا المعنى ورد في الخطبة الأُولى مِن خطب نهج البلاغة حيث يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب( عليه السلام ): «ليَسْتَأدُوهُم ميثاق فطرته ،ويذكروهم منسي نعمته ،ويحتجوا إِليهم بالتبليغ ،ويُثيروا لهم دفائن العقول » .
الطريف في الأمر أنَّ الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء وإِعادتهم إلى نور الهداية ،هي:
أوّلا: إِنَّ هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم ووجدانكم وأرواحكم .
ثانياً: إِنّها جاءت مِن قبل خالقكم .
ثالثاً: عليكم أن لا تنسوا أنّكم اقترفتم الذنوب ،وأنَّ مِنهاج عمل الأنبياء هو فتح باب التوبة مِن الذنوب والهداية للصواب .
لكن هذه الفئة مِن الناس لم تؤمن برغم كل ذلك: ( إِنَّا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ){[2303]} وبذلك لا تنفع معهم دعوتك: ( وإِن تدعهم إلى الهوى فلن يهتدوا إذاً أبداً ) .
ولا نعتقد أننا بحاجة إلى أن نوضح أن سبب انعدام قابلية التشخيص والقدرة والإِحساس والسمع لدى هؤلاء ،إِنّما كانَ مِن عندَ الله ،ولكن بسبب ( ما قدّمت يداه ) وبسبب الأعمال التي قاموا بها سابقاً ،وهذا هو الجزاء المباشر لأعمالهم ولما كسبت أيديهم .بعبارة أُخرى: إِنَّ الأعمال القبيحة السيئة والمخزية تحوَّلت إلى ستار وثقل ،أي ( كنان ووقر ) على قلوبهم وآذانهم ،وهذه الحقيقة تذكرها الكثير مِن الآيات القرآنية ،إِذ نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى في الآية ( 155 ) مِن سورة النساء: ( بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إِلاَّ قليلا ) .
ولكن هناك مَن يتذَرَّع بشتى الحجج والذرائع لإِثبات فكرة الجبر ودعم مذهبه في ذلك ،دون أن يأخذ بنظر الاعتبار بقية هذه الآية ،وسائر الآيات القرآنية الأُخرى التي تفسرها ،بل يعتمد على ظواهر ألفاظ الآيات ويتخذها سنداً لإِثبات مقولة الجبر ،في حين أنَّ الجواب على ذلككما أسلفناواضح بدرجة كبيرة .