غير أنّ موسى ( عليه السلام ) بدون أن يبدي عجلة ،لاطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه ،بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز ( قال بل ألقوا ) .ولا شكّ أنّ دعوة موسى ( عليه السلام ) هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدّمة لاظهار الحقّ ،ولم يكن من وجهة نظر موسى ( عليه السلام ) أمراً مستهجناً ،بل كان يعتبره مقدّمة لواجب .
فقبل السّحرة ذلك أيضاً ،وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة ،وإذا قبلنا الرّواية التي تقول: إنّهم كانوا آلاف الأفراد ،فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة اُلقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة ( فإذا حبالهم وعصيّهم يخيل إليه من سحرهم أنّها تسعى ) !
أجل ،لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة ،وفي أشكال مختلفة ومخيفة ،ونقرأ في الآيات الاُخرى من القرآن الكريم في هذا الباب: ( سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم ){[2437]} وبتعبير الآية ( 44 ) من سورة الشعراء: ( وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون ) .
لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي مواداً كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وارتفعت حرارته وسخن ،فإنّه يولّد لهؤلاءنتيجة لشدّة فورانهحركات مختلفة وسريعة «إنّ هذه الحركات لم تكن سيراً وسعياً حتماً ،إلاّ أنّ إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس ،والمشهد الخاص الذي ظهر هناك ،كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح ،وهي تتحرّك الآن .( وتعبير ( سحروا أعين الناس ) إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ،وكذلك تعبير ( يخيّل إليه ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ) .
على كلّ حال ،فإنّ المشهد كان عجيباً جدّاً ،فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيراً ،وتمرسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقاً ،وكانوا يعرفون جيداً طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة ،استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح .فعلت صرخات السرور من الفراعنة ،بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب ،ويتراجعون إلى الخلف .
/خ69