الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة ،فتقول: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ) .
كلمة «العمل » على ما قاله «الراغب » في المفردات بمعنى: كل فعل يكون بقصد ،ولكن الفعل أعم منه ،فهو يطلق على الأفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد{[2835]} .
جملة «قدمنا » من «القدوم » بمعنى «المجيء » أو «الذهاب على أثر شيء » وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة ،يعني مسلّماً وبشكل قاطع أن جميع أعمال أُولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادةوإن كانت أعمال خير ظاهراًسنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء ،لشركهم وكفرهم .
آفات العمل الصالح:
كلمة «هباء » بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّاً التي لا تُرى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبداً إلاّ في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كُوّة ،فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها .
هذا التعبير يدل على أن أعمال أُولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً ،وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة .
هذه الآية نظيرة الآية ( 18 ) من سورة إبراهيم التي تقول: ( مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) .
الدليل المنطقي لذلك واضح أيضاً ،لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى ،هو النّية والدافع وغاية العمل النهائية ،فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة ،وخطط سليمة صحيحة ،في حين أن من لا إيمان لهم ،فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور و العجب ،فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم .
على سبيل المثال ،نحن نعرف مساجد من مئات السنين ،لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير ،وبعكسها نرى بيوتاً تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة واحدة ،فالأُولى بنيت من كل النواحي بناءً محكماً بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية ،أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة ،فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط{[2836]} .
من وجهة نظر المنطق الإسلامي ،فإن للأعمال الصالحة آفات ،ينبغي مراقبتها بدقة ،فقد يكون العمل أحياناً خراباً وفاسداً منذ البداية ،كمثل العمل الذي يتخذ ( رياءً ) .
و أحيانا اُخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو أصاب الانسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك .
و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية ،كمثل الإنفاق الذي تتبعه «منّة » ،أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد .
حتى ارتكاب الذنوب أحياناً يترك أثره على العمل الصالح بعدهاطبقاً لبعض الرّوايات الإسلاميةكما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوماً{[2837]} .
على أية حال ،فللإسلام منهج فذ ،دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح .نقرأ في حديث عن الإمام الباقر( عليه السلام ) قال:
يبعث الله عز وجل يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي ،ثمّ يقول له: ( كن هباءً منثوراً ) ثمّ قال: أمّا واللهيا أبا حمزةإنّهم كانوا يصومون ويصلون ،ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه ،وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنكروه ،قال: والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس »{[2838]} .