/م7
الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإِشكالات في عبارة موجزة: ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) .
هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة ،فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآنالذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه باللهليخفوا وجه الحقيقة .
حقّاً ،إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج ،الواهية: فنقول من دون الإجابة عليها بالتفصيل: انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي .
و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها ،لأن:
أوّلا: لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة ؟بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم ،كما يحكم به العقل والعلم ،حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الإنسان تماماً ،ليكون قدوة عملية له على كل المستويات ،وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج ،ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملائكة ،ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الاهتمام بالدنيا: إنّه ملك ،وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس: إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية ،وعشرات ( إذا ) مثل تلك .
ثانياً: ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشراً من أجل تصديقه ؟أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة ،وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن !
ثالثاً: أكل الطعام كسائر الناس ،والمشي في الأسواق يكون سبباً للإندماج بالناس أكثر ،والغوص في أعماق حياتهم ،ليؤدي رسالته بشكل أفضل .
رابعاً: عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة ،هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانةو حتى القرب من اللهفي الأثرياء خاصّة ،في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا: أيّها الإِنسان ،إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء ،إنّها بالعلم والتقوى والإِيمان .
خامساً: بأي مقياس كانوا يعتبرونه «مسحوراً » أو «مجنوناً » ؟الشخص الذي كان عقله معجزاً بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإِسلامية ،كيف يمكن اتهامه بهذه التهمة المضحكة ؟أيصح أن نقول إن تحطيم الأصنام ورفض الإِتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون ؟!
اتضح بناءً على ما قلناه أن ( الأمثال ) هنا ،خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية ،بمعنى الأقوال الفارغة الواهية ،ولعل التعبير عنها ب ( الأمثال ) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكأنها مثله ،وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية ،في حال أنّها ليست كذلك واقعاً{[2821]} .
و ينبغي أيضاً الالتفات إلى هذه النكتة ،وهي أنّ أعداء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانوا يتهمونهب «الساحر » وأحياناً ب «المسحور » وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن «المسحور » بمعنى «الساحر » ( لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحياناً ) ولكن الظاهر أن بينهما فرقاً .
عندما يقال عنه بأنّه ساحر ،فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب ،ولأنّهم ما كانوا يريدون الإِقرار بهذه الحقيقة ،فقد لجأوا إلى اتهامه ب «الساحر » .
أمّا «المسحور » فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به ،وعملوا على اختلال حواسه ،هذا الاتهام نشأ من أن الرّسول كان محطماً لسنتهم ،ومخالفاً لعاداتهم وأعرافهم الخرافية ،وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية .
أمّا جواب جميع هذه الاتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه
و هنا يأتي هذا السؤال ،وهو أنّه لماذا قال تعالى: ( فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا ) .
الجواب هو أنّ الإِنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما ،إذا كان مريداً للحق باحثاً عنه ،أمّا من يتخذ موقفهابتداءًعلى أساس أحكامهنا بمعنى ( التشبيهات ) لكنّهم لم يوضحوا هنا ما هي التشبيهات التي قدمها المشركون ،وبعض آخر اعتبر ( الأمثال ) هنا بمعنى ( الصفات ) ،لأن أحد معاني ( المثل )طبقاً لما قاله الراغب في المفردات هو ( الصفة ) ،فالمقصود هنا هي الصفة الواهية التي لا أساس لها ،ذلك لأن ما في صدر وذيل الآية القرآنية أعلاه يدل على هذا المعنى ،فمن جانب يقول بعنوان التعجب: انظر آية أمثال ضربوا ؟ومن جانب آخر يقول: الأوصاف التي تؤدي إلى ضلالهم الذي لا هداية بعده .
مسبقة خاطئة ومضلّة ،نابعة من الجهل والتزمت والعناد ،فمضافاً إلى أنّه لا يعثر على الحق ،فإنّه سيتخذ موقعه ضد الحق دائماً .