وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالات فرعون الثلاثة ،إلاّ أنه قدّم الإجابة على الإشكال الثّاني نظراً لأهميته .( أو أنه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة ،لأن تربية الشخصلا تكون دليلا على عدم جواز هداية مربّية إن كان المربي ضالا ،ليسلك سبيل الرشاد ) وعلى كل حال أجابه موسى( عليه السلام ): ( قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين ) .
وهنا كلام طويل بين المفسّرين على المراد من كلمة «الضالين » الواردة في تعبير موسى( عليه السلام ) ...لأنّه كما نعلم لا مجال لأن تكون للنبيّ سابقةُ سوء حتى قبل مرحلة النبوّة ..لأنّها تزلزل موقعه في أفكار عامّة الناس ،ويبقى الهدف من بعثته ناقصاً غيرِ تام ،ولذلك فإنّ العصمة في الأنبياء لازمة حتى قبل زمان نبوتهم !...هذا من جهة ...
ومن جهة أُخرى ينبغي أن يكون هذا الكلام جواباً مسكتاً ومضحماً لفرعون !لذلك فإن كثيراً من المفسّرين يعتقدون أن المراد من «الضال » هنا هو كونُه أخطأ في الموضوع ،أي أن موسى كانت ضربته للرجل القبطي لا بقصد القتل ،بل لكي يحمي المظلوم ويدافع عنه ،ولم يدر أنّه ستؤول ضربته إلى الإجهاز عليه وقتله ،فبناءً على ذلك فإنّ الضالّ هنا معناه «الغافل » والمراد منه الغافل عن العاقبة التي أدّى عمله إليها .
وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من ذلك أنّه لم يكن أيّ خطأ في قتل القبطي الظالم لأنّه كان مستحقاً ،بل إنّ موسى( عليه السلام ) يريد أن يقول: إنّه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا الوجه ،وأنه لا يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيداً عن وطنه ،وأن يتأخر منهجه «في أداء رسالته » .
ولكن الظاهر أنّ هذا لا يعدّ جواباً لفرعون ،بل هو موضوع كان لموسى أن يبيّنه لأتباعه ومن حوله من محبّيه !لا أنه ردّ على إشكال فرعون !...
والتّفسير الثّالث الذي من المحتمل أن يكون مناسباً أكثر لمقام موسى( عليه السلام ) من جهات متعددةويتلاءم وعظمة كيانه ،أن موسى( عليه السلام ) استخدم التورية في تعبيره جواباً على كلام فرعون ،فقال كلاماً ظاهره أنّه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ...لكنّ الله عرّفه إياه بعدئذ ،ووهب له حكماًفجعله من المرسلين ،إلاّ أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة !من الجهد والعناء واضطراب البالمع أَنّ أصل عمله كان حقاً ومطابقاً لقانون العدالة «أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسى( عليه السلام ) قد ضلّ طريقه فصادف أمامه هذه القضيّة » ...
ونحن نعرف أن «التورية » هي أن يقول الإنسان كلاماً باطنه حق ،إلاّ أن الطرف الآخر يفهمُ من ظاهره شيئاً آخر ،وهذا الأمر يقع في موارد خاصّة يُبتلى الإنسان فيها بالحرج أو الضيق ،ولا يريد أن يكذب ،وهو في الوقت ذاته على ظاهر كلامه ...{[2908]}