التّفسير
دُعاءُ إبراهيم( عليه السلام ):
من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالاته من الله ،فكأنّه بعد أن دعا قومه الضالين نحو الله ،وبيّن آثار الربوبية المتجليّة في عالم الوجود ...يتجه بوجهه نحو الله ويعرض عنهم ،فكل ما يحتاجه فانه يطلبه من الله ،ليكشف للناس ولعبدة الأصنام أنه مهما أرادوه من شؤون الدنيا والآخرة ،فعليهم أن يسألوه من الله ،وهو تأكيد آخرضمنيٌعلى ربوبيته المطلقة .
فأوّل ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو ( ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين ) .
فالمقام الأوّل هنا الذي يريده إبراهيم لنفسه من الله هو الحكم ،ثمّ الإلحاق بالصالحين ...
و «الحكم » و «الحكمة » كلاهما من جذر واحد ...و «الحكمة » كما يقول عنها الراغب في مفرداته: هي الوصول إلى الحق عن طريق العلم ومعرفة الموجودات والأفعال الصالحة ،وبتعبير آخر: هي معرفة القيم والمعايير التي يستطيع الإنسان بها أن يعرف الحق حيثما كان ،ويميز الباطل في أي ثوب كان ،وهو ما يُعبّر عنه عند الفلاسفة ب «كمال القوّة النظرية » .
وهي الحقيقة التي تلقّاها لقمان من ربّه ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ){[2923]} .وعُبّر عنها بالخير الكثير في الآية ( 269 ) من سورة البقرة ( ومن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً ) .
ويبدو أنّ للحكم مفهوماً أسمى من الحكمة ...أي إنّه العلم المقترن بالاستعداد للتنفيذ والعمل ،وبتعبير آخر: إن الحكم هو القدرة على القضاء الصحيح الخالي من الهوى والخطأ !
أجلْ ،إنّ إبراهيم( عليه السلام ) يطلب من الله قبل كل شيء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة بالحاكميّة ،لأن أي منهج لا يتحقق دون هذا الأساس !
وبعد هذا الطلب يسأل من الله إلحاقه بالصالحين ،وهو إشارة إلى الجوانب العملية ،أو كما يصطلح عليها ب «الحكمة العملية » في مقابل الطلب السابق وهو «الحكمة النظرية » !...
ولا شك أن إبراهيم( عليه السلام ) كان يتمتع بمقام «الحكم » وكان في زمرة الصالحين أيضاً ...فلم سأل الله ذلك ؟!
الجواب على هذا السؤال هو أنّه ليس للحكمة حد معين ،ولا لصلاح الإِنسان حدّ ،فهو يطلب ذلك ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يوماً بعد يوم ،حتى وهو في موقع النبوة ،وأنه من أولي العزم ..لا يكتفي بهذه العناوين ...
ثمّإضافة إلى ذلكفإنّ إبراهيم( عليه السلام ) يعلم أن كل ذلك من الله سبحانه ،ومن الممكن في أي لحظة أن تسلب هذه المواهب أو تزل به القدم ،لذا فهو يطلب دوامها من الله إضافة إلى التكامل ،كما أننا نخطو ونسير إن شاء الله في الصراط المستقيم ،ومع ذلك فكلّ يوم نسأل ربّنا في الصلاة أن يهدينا الصراط المستقيم ،ونطلب منه التكامل ومواصلة هذا الطريق !
وبعد هذين الطَلَبينِ ...يطلبُ موضوعاً مهماً آخر بهذه العبارة: ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) .