والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع ،فتقول: ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء ){[3024]} .
فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق ،لا ريب في علمه و ( إنّه خبير بما تفعلون ) .
يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ،لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة ،وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض ،وقد اشير إلى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كراراً .
ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير .
إلاّ أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيراً آخر ،وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا ،وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها .
وتوضيح ذلك:
1إنّ الآية تقول: تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب ..وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ..لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ){[3025]} .
2تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة ،ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع !.
3التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة ،إلاّ أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة » أي أن الحالتين تبينان شيئاً واحداً .
4والتعبير ب «الإتقان » الذي يعني الإحكام والتنظيم ،يتناسب زمان استقرار نظام العالم ،ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه .
5جملة ( إنّه خبير بما تفعلون ) مع ملاحظة أنّ «تفعلون » فعل مضارع ،تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا ،لأنّها تقول: إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل .ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم ،لكان ينبغي أن يقال: إنّه خبير بما فعلتم .«فتأملوا بدقّة » .
ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق ،وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر: ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ) .
وبناءً على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد ،وقسم منها في المعاد !.
وما نستنتجه من هذا التّفسير ،هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة » هي في سرعة مطرّدة في حركتها ...ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها ،فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب !.
ووفقاً لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من ( 30 ) كيلومتر في كل دقيقة ،وسرعة سيرها في حركتها الإنتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار ...
لكن علام عُني بالجبال دون غيرها ؟لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها ،وتعدّ مثلا حسناً لبيان قدرة الله سبحانه ،فحيث أن هذه الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل ،تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع ا لأرض » فقدرته على كل شيء «بينة ،وثابتة » !
وعلى كل حال ،فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية ...لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو «غاليو » الإيطالي و«كبرنيك » اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر !بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكماً صارماً ،وتعرضاً لمضايقات كثيرة ..
إلاّ أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريباً وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد !
ويرى بعض فلاسفة الإسلام ،في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني ،وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم ،أن الآية ناظرة إلى «الحركة الجوهرية » في الأشياء ،واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها{[3026]} .