المفردات:
مر السحاب: سرعة السحاب .
التفسير:
88-{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} .
جمهور المفسرين على أن هذه الآية تشير إلى أهوال القيامة ،ومن أهوال القيامة النفخ في الصور مرتين:
الأولى: للصعق والفزع ويعقب ذلك الموت .
الثانية: للبعث ثم الحساب والجزاء .
أما الجبال فلها حالتان:
الحالة الأولى: أنها تنسف نسفا ،وتندك دكا عند النفخة الأولى .قال تعالى:{ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا* فيذرها قاعا صفصفا*لا ترى فيها عوجا ولا أمتا*يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ..} [ طه: 105-108] .
الحالة الثانية للجبال: أنها تعود من ناحية الهيئة والشكل ،لكنها تحوّل إلى عهن منفوش ،أي: صوف منشور ثم تسير تسيير السحاب في طريقه إلى الزوال .
والمعنى الإجمالي للآية:
وترى أيها الإنسان الجبال يوم القيامة وأنت واقف بعيد عنها ،تحسبها جامدة ثابتة في مكانها ،ولكنها قد سحقت وأصبحت كالعهن المنفوش ،وقد سيّرها الله سبحانه وتعالى فوق سطح الأرض ،وجعلها تمرّ فوقها في طريقها إلى الزوال .
{صنع الله الذي أتقن كل شيء .. ْ}
أي: هذا الصنع العجيب من حركة الجبال وتلاشيها دليل على إتقان الصنعة ،وذلك صنع الله الذي أحكم الخلق في البدء ،وأحكم أمر البعث والنهاية ،حتى يكون الجزاء والثواب والعقاب .
{إنه خبير بما تفعلون}
إنه عليم بأعمالكم فيجازيكم عليها جزاء عادلا ،قال تعالى:{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [ الزلزلة: 7 ،8] .
قال تعالى:{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار*وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد* سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار* ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب .[ إبراهيم: 48-51] .
ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية من إبداع القرآن الكريم ؛فهو يتحدث عن الآخرة وأهوالها ،ثم يعود إلى تذكير القلوب بفضل الله ،بأن جعل الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ،ثم يتحدث عن النفخ في الصور وأهوال البعث والحشر والجزاء .
ثم يتحدث عن عظمة الصانع في الدنيا ،حيث إن الأرض تتحرك حول نفسها ،ولها حركة أخرى حول الشمس ،وهذه الحركة يترتب عليها مجيء الليل والنهار بشكل متوازن يترتب عليه سعادة الناس ،وانتفاعهم بالليل والنهار ،ومن جملة ما يتحرك بحركة الأرض الجبال أيضا ،تظنها جامدة ثابتة ،لكنها تتحرك حركة يسيرة كحركة السحاب ،وهي الحركة التي تتحركها مع حركة الأرض ،هذه الحركة تؤدي إلى التكامل والتناغم والنظام ،وعموم الفائدة في هذا الكون ،وهو سبحانه مطلع على أعمالكم في الدنيا وسيجازيكم عليها في الآخرة .
جاء في التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق:
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة ،لكن الظاهر أن ذلك في الآخرة ،لأن الكلام عن يوم القيامة .
وأنا لا أستبعد أن تكون هذه الآية تلفت النظر إلى بديع صنع الله في الدنيا ،بدليل قوله سبحانه ،{صنع الله الذي أتقن كل شيء ...} فالله خلق السماء والأرض ،والبحار والأنهار ،والشمس والقمر ،والليل والنهار ،وخلق الجبال ،وتحدث القرآن عن الجبال حديثا متعددا ،فهي دليل قدرة القدير ،وإبداع الصانع ،ولا يكاد القرآن يتحدث عن الأمطار والزراعة إلا ويتحدث عن الجبال ،فالماء يتجمع في رءوس الجبال في الشتاء ،ثم ينزل في الصيف ،والجبال لها جذور ممتدة في أصول الأرض تمسك بها ،وتحفظ توازنها ،والجبال وسيلة من وسائل الاستقرار ومنع الزلازل والبراكين .
قال تعالى:{أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون} [ النمل: 61]
وقال تعالى:{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت*وإلى السماء كيف رفعت*وإلى الجبال كيف نصبت*وإلى الأرض كيف سطحت} [ الغاشية: 17-20] .
فالقرآن الكريم تحدث عن الجبال كدليل من دلائل القدرة والعظمة والإبداع ،والخلق والتكوين والتكامل والحفظ لهذا الكون في الدنيا ،وتحدث أيضا عن الجبال وتسييرها في الآخرة .
قال تعالى:{يوم تمور السماء مورا*وتسير الجبال سيرا} [ الطور: 9 ،10] .
وقال تعالى:{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} [ الكهف: 47] .
وقال تعالى:{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار} [ إبراهيم: 48] .
وقال تعالى:{وسيرت الجبال فكانت سرابا} [ النبأ: 20] .
فالكون كله بيد الله ،وهو سبحانه قادر على حفظ هذا الكون في الدنيا ،وعلى نسف الجبال وتسييرها في الآخرة .
من المنتخب في تفسير القرآن الكريم
"لوزارة الأوقاف المصرية "
{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} .
المعنى:
وترى – أيها الرسول- الجبال تظنها ثابتة لا تتحرك ،ولكنها في واقع الأمر تتحرك بسرعة كالسحاب ،وهذا من صنع الله الذي خلق كل شيء وأبدعه ،إنه سبحانه كامل العلم بما يفعل الناس من طاعة ومعصية ومجازيهم عليه .
تعليق بالهامش مختصرا:
{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ..} تقرر هذه الآية الكريمة أن جميع الأجسام التي تخضع لجاذبية الأرض ،مثل الجبال والبحار والغلاف الجوي ...إلخ ،تشترك مع الأرض في دورتها اليومية حول محورها ،ودورتها السنوية حول الشمس ،لكن هذه الدورة لا تدرك ،فهي مثل حركة السحاب في الجو ،يراها الناظرون بعيونهم ،ولكن لا يسمعون صوتها أو يلمسونها ،وتبين هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل ؛خلق الكون والقوانين التي تنظمه ،وهو قادر على أن يجعل الأرض ساكنة لا تدور حول محورها ،أو يجعل فترة دورانها حول محورها تساوي فترة دورانهما حول الشمس ،وبذلك يصبح نصف وجه الأرض في ظلام دامس لمدة ستة أشهر ،والنصف الآخر في نهار ساطع الضوء لمدة ستة أشهر ،مما يؤدي إلى اختلال التوازن الحراري على الأرض كلها ،وفي هذا فناء الأحياء التي عليها ،والله سبحانه وتعالى هو الذي وضع هذا النظام المحكم رحمة ورأفة بعباده .
وبالرغم من أن [ أريستاخورس] الفلكي السكندري 310-230 ق . م كتب في موضوع دوران الأرض حول نفسها ،فإن هذه الكتابات العلمية القديمة لم تصل إلى العرب وقت محمد صلى الله عليه وسلم أو قبله ؛بل إن أول من أشار إلى هذه المعلومات هو البيروني عام ألف للميلاد بعد حركة الترجمة في الدولة العباسية ،فإن إيراد هذه الحقائق العلمية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم-التي لم تكن قد وصلت إلى علمه- دليل على أنها موحى بها من عند الله26 .
من تفسير القرطبي:
يقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ،ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها ،وإبراز ما كانت تواريه ،فأولى الصفات: الاندكاك ،وذلك قبل الزلزلة ،ثم تصير كالعهن المنفوش ،وذلك إذا صارت السماء كالمهل [ أي: الزيت المذاب] ،وقد جمع الله بينهما ،فقال تعالى:{يوم تكون السماء كالمهل*وتكون الجبال كالعهن} [ المعارج: 8 ،9] .
والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء ،وذلك أن تنقطع بعد أن كانت كالعهن .
والحالة الرابعة: أن تنسف .
والحالة الخامسة: أن الرياح ترفعها على وجه الأرض ،فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار .
والحالة السادسة: أن تكون سرابا .