( الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين ) .
هذه الآية تؤكّد الموضوع وتقول: إنّ ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمرٌ حقيقيٌ من الله ولا يعتوره الشكّ ،فلا تتردّد في قبوله .
في تفسير ( الحق من ربّك ) للمفسّرين رأيان: الرأي الأول يقول: إنّ الجملة مبتدأ وخبر ،وبذلك يكون المعنى: الحقّ دائماً من ربّك ،وذلك لأنّ الحقّ هو الحقيقة ،والحقيقة هو الوجود ،وكلّ وجود ناشئ من وجوده .لذلك فكلّ باطل عدم ،والعدم غريب على ذاته .
الرأي الثاني يقول: إنّ الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره «تلك الأخبار » .أي تلك الأخبار التي أنزلناها عليك حقائق من الله .وكلّ من التفسيرين ينسجم مع الآية .
سبب النّزول
قيل نزلت الآيات في وفد نجران العاقب والسيد ومن معهما قالوا لرسول الله: هل رأيت ولداً من غير ذكر فنزلت: ( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم ...) الآيات فقرأها عليهم ،فلمّا دعاهم رسول الله إلى المباهلة{[579]}استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك ،فلمّا رجعوا إلى رجالهم قال لهم الأسقف: انظروا محمّدا في غد فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ،وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء .
فلمّا كان الغد جاء النّبي ( صلى الله عليه وآله ) آخذاً بيدي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) والحسن ( عليه السلام ) والحسين ( عليه السلام ) بين يديه يمشيان وفاطمة ( عليها السلام ) تمشي خلفه ،وخرج النصارى يتقدمهم أسقفهم .فلمّا رأى النّبي ( صلى الله عليه وآله ) قد أقبل بمِن معه فسأل عنهم فقيل له: هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه ،وهذان ابنا بنته من علي وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه ،وتقدّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجثا على ركبتيه .قال أبو حارثة الاسقف جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة .
فرجع ولم يقدم على المباهلة ،فقال السيد: أذن يا أبا حارثة للمباهلة!فقال: لا .إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحل والله علينا حول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء .
فقال الأسقف: يا أبا القاسم!إنا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به ،فصالحهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ألفي حلة من حلل الاواقي قسمة كلّ حلة أربعون درهماً فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك أو على عارية ثلاثين درعاً وثلاثين رمىً وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد ،ورسول الله ضامن حتّى يؤديها وكتب لهم بذلك كتاباً .
وروي أن الأسقف قال لهم: إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ،فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة{[580]} .