التّفسير
آياتُ عظمتهمرّةً أُخرى:
تعقيباً على الأبحاث السابقة حول آيات الله في الآفاق وفي الأنفس ،تتحدث هذه الآياتمحل البحثحول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة .
فتتحدث في البداية عن ظاهرة «النوم » على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق ،فتقول: ( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ) .
وتُختتم الآية بإثارة العبرة بالقول: ( إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) .
وهذه الحقيقة غير خافية على أحد ،هي أن جميع «الموجودات الحية » تحتاج إلى الراحة والدعة ،وذلك لتجديد قوتها وتهيئة الإستعداد اللازم لإدامة العمل والفعالية ،الراحة التي لابدّ منها حتى لأولئك الأفراد الحريصين والجاديّن .
فأي شيء يُتصور أحسن من النوم للوصول إلى هذا الهدف ،وهو يأتيه بشكل إلزامي ،ويدعوه إلى تعطيل نشاطه الجسماني ،وقسم مهم من نشاطه الفكري والذهني ،بينما تستمر أجهزة خاصة في العمل في جسم الإنسان كالقلب الرئة وبعض النشاط الذهني ،وما إلى ذلك ممّا يستلزمه استمرار الحياة في الإنسان فحسب ،أمّا البقية فتهدأ وتتعطل عن العمل .
هذه الموهبة العظيمة تؤدي إلى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة ،فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن ،ونوع من التعطيل له .ويجد الإنسان على أثرها قوة ونشاطاً جديداً في حياته .
ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الانسان وذبل جسمه وانهار بسرعة ،ولعجل عليه العجز والشيخوخة ...وبهذا فإن النوم المناسب والهادىء مدعاة للسلامة وطول العمر ،ودوام «الشباب » ونشاطه .
وممّا يجدر التنبيه عليه أوّلاً: أنّ النوم ورد قبل عبارة ( ابتغاؤكم من فضله ) التي تعني السعي وراء الرزق ،وهذا التعبير هو إشارة إلى أن النوم أساس السعي لأنّهمن دون النوم الكافييصعب الابتغاء من فضل الله .
ثانياً: صحيح أنّ النوم يقع في الليل ،والإبتغاء من فضل الله في النهار ،إلاّ أنّه ليس صعباً على الإنسان أن يغيّر هذا المنهج إذا اقتضت الضرورة .بل الله خلق الإنسان بصورة يستطيع معها تغيير منهجية النوم ،ويجعلها وفقاً للضرورات والحاجات ،فكأنّ التعبير ( منامكم بالليل والنهار ) إشارة إلى هذه «اللطيفة » الدقيقة .
ولا شك أنّ المنهج الأصل للنوم متعلق بالليل ،ولأنّ الليل هادئ بسبب الظلمة ،فله أولوية خاصة في هذا المورد .
ولكن قد يتفق للإنسان ولظروف خاصة يكون مجبراً على السفر ليلا وأن يستريح نهاراً ..فلو كان منهج تنظيم النوم خارجاً عن اختيار الإنسان فسيواجه العديد من الصعوبات حتماً .
وأهمية هذا الموضوع ،خاصة في عصرنا الذي تضطر فيه بعض المؤسسات الصناعية والطبية والعلاجية أن تعمل ليل نهار ،ولا يمكن لها أن تعطل منهجها بحيث يتناوب عمالها في ثلاث مراحل للعمل فيها ،هذه الأهمية في هذا العصر أجلى منه في أي عصر مضى !
وحاجة جسم الإنسان وروحه إلى النوم كثيرة إلى درجة لا يستطيع الفرد أن يتحمل السهر المتواصل أكثر من يومين أو ثلاثة .
ولذلك فإنّ المنع من النوم يعتبر من أشد أنواع التعذيب الذي يمارسه الطغاة والجبابرة مع سجنائهم .
وكذلك يُعدُّ النوم واحداً من الطرق العلاجية لكثير من الأمراض ،حيث يوصي الأطباء المريض بأن يغطّ في نوم عميق فتزداد بذلك قوّة المريض ومناعته .
وبالطبع لا يمكن لأحد أن يحدد مقداراً معيناً للنوم على أنّه «مقدار النوم اللازم » لعموم الناس لأنّ ذلك يرتبط بسنّ الأشخاص ووضعهم ومزاجهم وكيفية البناء الفيسيولوجي والسيكلوجي «الجسيمي والروحي » ،بل المهم النوم الكافي بمقدار يحسّ الإنسان بعده بأنّه شبع منه ...كما هي الحال بالنسبة للشبع من الغذاء والماء تماماً .
وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة ،وهي أنّه بالإضافة إلى «طول » زمان النوم ، فلعمقه خصوصية وأهمية أُخرى أيضاً ...فرب ساعة ينام فيها الإنسان نوماً عميقاً تسد عن عدد من الساعات التي ينامها نوماً سطحياً في إعادة بناء روح الإنسان وجسمه .
وبالطبع ،فحيث لا يمكن النوم العميق ،فالنعاس أيضاً من النعم الإلهية ،كما أشارت إليه الآية الحادية عشرة من سورة الأنفال في شأن المجاهدين يوم بدر ( إذْ يغشيّكم النعاس أمنة منه ) لأنّه لا يمكن النوم العميق في ميدان الحرب ،وليس مفيداًأيضاًولا نافعاً .
وعلى كل حال فإن نعمة النوم والهدوء والإطمئنان الناشىء منه ،وما يحصل عليه الإنسان من قوة ونشاط بعد النوم ،هي من النعم التي لا يمكن وصفها بأي بيان !.
/خ25