بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النّبي ( صلى الله عليه وآله ) تطرّقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم اُسس ودعائم العقائد الإسلامية ،فتقول: ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ){[3288]} .
وقلنا مراراً: إنّ المراد من ( ستّة أيّام ) في هذه الآيات: ستّ مراحل ،لأنّ أحد معاني اليوم في المحادثات اليومية: المرحلة ،كما نقول: كان النظام المستبدّ يحكمنا بالأمس ،واليوم يحكمنا نظام الشورى ،في حين أنّ الحكومات المستبدّة كانت تحكم آلاف السنين ،إلاّ أنّهم يعبّرون عن تلك المرحلة باليوم .
ومن جهة اُخرى ،فقد مرّت فترات ومراحل مختلفة على السماء والأرض:
فيوماً كانت كلّ كواكب المنظومة الشمسية كتلة واحدة مذابة .
وفي يوم آخر انفصلت السيارات عن الشمس وبدأت تدور حولها .
وفي يوم كانت الأرض كتلة نار ملتهبة .
وفي يوم آخر أصحبت باردة وجاهزة لحياة النباتات والحيوانات ،ثمّ وجدت الكائنات الحيّة عبر مراحل مختلفة .
وقد أوردنا شرحاً مفصّلا لهذا المعنى والمراحل الستّ بصورة مفصّلة في ذيل الآية ( 54 ) من سورة الأعراف .
ومن البديهي أنّ قدرة الله اللامتناهية كافية لإيجاد كلّ هذا العالم في لحظة ،بل وفي أقلّ منها ،إلاّ أنّ هذا النظام التدريجي يبيّن عظمة الله وعلمه وتدبيره في جميع المراحل بصورة أفضل .
فمثلا: إذا طوى الجنين في لحظة واحدة كلّ مراحل تكامله وولد ،فإنّ عجائبه ستبقى بعيدة عن نظر الإنسان ،أمّا عندما نراه يطوي في كلّ يوم وأسبوعطوال هذه التسعة أشهرأشكالا عجيبة جديدة ،فسنتعرّف أكثر على عظمة الله سبحانه .
وبعد مسألة الخلق تتطرّق الآية إلى مسألة حاكمية الله سبحانه على عالم الوجود ،فتقول: إنّ الله تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات: ( ثمّ استوى على العرش ) .
كلمة ( العرش ) كما قلنا سابقاً ،تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم ،وتأتي عادة كناية عن القدرة ،كما نقول في تعبيراتنا اليومية: تكسّرت قوائم عرش فلان ،أي إنّ قدرته وحكومته قد زالت .
بناءً على هذا ،فإنّ استواء الله على العرش لا يراد منه المعنى الجسمي بأن يكون لله عرش كالملوك يجلس عليه ،بل بمعنى أنّه خالق عالم الوجود ،وكذلك الحاكم على كلّ العالم{[3289]} .
وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة إلى توحيد «الولاية » و «الشفاعة » ،فتقول: ( ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع ) .
فمع هذا الدليل الواضح ،بأنّ كونه سبحانه خالقاً دليل على كونه حاكماً ،والحاكميّة دليل على توحيد الولي والشفيع والمعبود ،فلماذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام ؟( أفلا تتذكّرون ) !
في الحقيقة ،إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي انعكست في الآية أعلاه يعتبر كلّ منها دليلا على الأخرى ،فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية ،وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد الوليّ والشفيع والمعبود .
وهنا طرح بعض المفسّرين سؤال ،وهو أنّ الجملة الأخيرة تقول: ما لكم من دون الله من وليّ ولا شفيع ،ومعناها أنّ وليّكم وشفيعكم الوحيد هو الله سبحانه وحده ،فهل من الممكن أن يشفع أحد عنده ؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال من ثلاثة جوانب:
1بملاحظة أنّ جميع الشفعاء لا يشفعون إلاّ بإذنه تعالى: ( من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه ){[3290]} ،يمكن القول بأنّ الشفاعة بالرغم من كونها من قبل الأنبياء وأولياء الله ،إلاّ أنّها تعود إلى الله سبحانه ،سواء كانت الشفاعة لغفران الذنوب والعفو عن العاصين ،أم للوصول إلى النعم الإلهيّة ،والشاهد على هذا الكلام الآية التي وردت في بداية سورة «يونس » بمضمون هذه الآية تماماً ،حيث تقول: ( يدبّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ){[3291]} .
2إنّنا عند التوسّل بالله نتوسّل بصفاته ،فنستمدّ من رحمته ورحمانيّته ،من كونه غفّاراً غفوراً ،ومن فضله وكرمه ،فكأنّنا قد جعلناه شفيعاً إلى نفسه ،ونعتبر هذه الصفات واسطة بينها وبين ذاته المقدّسة ،وإن كانت صفاته عين ذاته في الحقيقة ،وهذا هو نفس الشيء الذي جاء في دعاء كميل في عبارة علي ( عليه السلام ) العميقة المعنى: «واستشفع بك إلى نفسك » .
3المراد من «الشفيع » هنا: الناصر والمعين ،ونحن نعلم أنّ الناصر والوليّ والمعين هو الله وحده ،وما قيل من أنّ الشفاعة هنا بمعنى الخلق وتكميل النفوس يعود في الحقيقة إلى نفس هذا المعنى .