وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد الله سبحانه في البداية ،ثمّ إلى مسألة «المعاد » ،وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة( توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية )بذكر توحيد الربوبية ،أي تدبير عالم الوجود من قبل الله سبحانه فقط ،فتقول: إنّ الله يدبّر اُمور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض: ( يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ) .
وبتعبير آخر ،فإنّ الله سبحانه قد جعل عالم الوجود من السماء إلى الأرض تحت أمره وتدبيره ،ولا يوجد مدبّر سواه في هذا العالم{[3292]} .
ثمّ تضيف: ( ثمّ يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون ) والمراد من هذا اليوم يوم القيامة .
وتوضيح ذلك: أنّ المفسّرين قد تحدّثوا كثيراً في تفسير هذه الآية ،واحتملوا احتمالات عديدة مختلفة:
1فاعتبرها بعضهم إشارة إلى قوس الصعود والنّزول لتدبير العالم في هذه الدنيا .
2وذهب آخرون إلى أنّها إشارة إلى ملائكة الله الذين يطوون المسافة بين السماء والأرض في خمسمائة سنة ،ويرجعون بهذه المدّة أيضاً ،وهم مشغولون بتدبير هذا العالم بأمر الله سبحانه .
3ويعتبرها البعض الآخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم ،ويعتقدون أنّ مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم كلّ ألف سنة ،ويأمر الله سبحانه ملائكته بتدبير أمر السماء والأرض في كلّ الف سنة ،وبعد انتهاء مرحلة الألف سنة هذه تبدأ مرحلة اُخرى .
إنّ هذه التفاسير علاوة على أنّها تطرح مطالب غامضة ومبهمة ،فإنّها لا تمتلك قرينة وشاهداً من نفس الآية أو من آيات القرآن الاُخرى .
وفي اعتقادنا أنّ المراد من الآيةبقرينة آيات اُخرى من القرآن ،وكذلك الروايات الواردة في تفسير الآيةشيء آخر ،وهو أنّ الله سبحانه خلق هذا العالم ،ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ ،وألبس البشر والموجودات الحيّة الاُخرى لباس الحياة ،إلاّ أنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم ،فتظلم الشمس ،وتفقد النجوم أشعّتها ،وبتعبير القرآن ستطوى السماوات حتّى ترجع إلى حالتها قبل توسّع هذا العالم ( يوم نطوي السماء كطيّ السجّل للكتب كما بدأنا أوّل خلق نعيده ){[3293]} ،وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع ،أي سيبدأ عالم آخر بعد انتهاء هذه الدنيا .
وهذا المعنى قد ورد في آيات القرآن الاُخرى ،ومن جملتها الآية ( 156 ) من سورة البقرة: ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) .
وجاء في الآية ( 27 ) من سورة الروم: ( وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه ) .
ونقرأ في الآية ( 34 ) من سورة يونس: ( قل الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده فأنّى تؤفكون ) .بملاحظة هذه التعبيرات ،والتعبيرات الاُخرى التي تقول: ( وإليه يرجع الأمر كلّه ){[3294]} ،يتّضح أنّ الآية مورد البحث تتحدّث أيضاً عن بداية ونهاية العالم وقيام يوم القيامة ،والذي يعبّرون عنه أحياناً ب «قوس النّزول » و «قوس الصعود » .
بناءً على هذا فإنّ معنى الآية يصبح: إنّ الله سبحانه يدبّر أمر هذا العالم من السماء إلى الأرضيبدأ من السماء وينتهي بالأرضثمّ يعود كلّ ذلك إليه في يوم القيامة .
ونطالع في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل هذه الآية: يعني الاُمور التي يدبّرها ،والأمر والنهي الذي أمر به ،وأعمال العباد ،كلّ هذا يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سنيّ الدنيا .
وهنا سؤال ،وهو: إنّنا نرى في الآية ( 4 ) من سورة المعارج في شأن طول يوم القيامة: ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ) فكيف يمكن الجمع بين الآية مورد البحث ،والتي عيّنت مقداره بألف سنة فقط ،وآية سورة المعارج ؟!
وقد ورد الجواب عن هذا السؤال في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) روي في ( أمالي الشيخ الطوسي ) أنّه قال: «إنّ في القيامة خمسين موقفاً ،كلّ موقف مثل الف سنة ممّا تعدّون ،ثمّ تلا هذه الآية: في يوم كان مقداره خمسين الف سنة »{[3295]} .
ومن الطبيعي أنّ هذه التعبيرات لا تنافي عدم كون المراد من عدد الألف والخمسين ألفاً ،العدد والحساب هنا ،بل كلّ منهما لبيان الكثرة والزيادة ،أي إنّ في القيامة خمسين موقفاً يجب أن يتوقّف الإنسان في كلّ موقف مدّة طويلة جدّاً .
بحث
إساءة الاستفادة من آية ( يدبّر الأمر )
لقد اتّخذ بعض أتباع المذاهب المصطنعة المبتدعة{[3296]} الآية أعلاه وسيلة ودليلا لتوجيه مسلكهم ومذهبهم ،وأرادوا أن يطبّقوا هذه الآية على مرادهم بارتكاب المغالطات والإشتباهات وادّعوا أنّ المراد من «الأمر » في الآية: الدين والمذهب ،و «التدبير »: يعني إرسال الدين ،و «العروج »: يعني رفع ونسخ الدين !واستنادا إلى هذا فإنّ كلّ مذهب أو دين لا يمكنه أن يعمّر أكثر من الف سنة ،ويجب أن يترك مكانه لدين آخر ،وبهذا فإنّهم يقولون: إنّنا نقبل القرآن ،لكن ،واستنادا إلى نفس هذا القرآن فإنّ ديناً آخر سيأتي بعد مرور الف سنة !
والآن نريد أن نبحث ونحلّل الآية المذكورة بحثاً محايداً ،لنرى هل يوجد فيها ارتباط بما يدّعيه هؤلاء ،أم لا ؟ونغضّ النظر عن أنّ هذا المعنى بعيد عن مفهوم الآية إلى الحدّ الذي لا يخطر على ذهن أيّ قارئ خالي الذهن .
إنّنا نرىبعد الدقّةأنّ ما يقولونه لا ينسجم مع مفهوم الآية ،بل إنّه مشكل بصورة واضحة من جهات كثيرة:
1إنّ تفسير كلمة «الأمر » بالدين لا دليل عليه ،بل تنفي آيات القرآن الاُخرى ذلك ،لأنّ كلمة الأمر قد استعملت في آيات اُخرى بمعنى أمر الخلق ،مثل ( إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ){[3297]} .
وقد استعملت كلمة الأمر في هذه الآية ،وآيات اُخرى مثل: الآية 50/سورة القمر ،الآية ( 27 ) من سورة المؤمنون ،الآية ( 54 ) من سورة الأعراف ،( 32 ) من سورة إبراهيم ،( 12 ) من سورة النحل ،( 25 ) من سورة الروم ،( 12 ) من سورة الجاثية ،بمعنى الأمر التكويني ،لا بمعنى تشريع الدين والمذهب .
وأساساً فإنّ كلّ مورد يأتي الكلام فيه عن السماء والأرض ،والخلق والخلقة وأمثال ذلك ،فإنّ «الأمر » يأتي بهذا المعنى ( فتأمّل ) .
2كلمة «التدبير » تستعمل أيضاً في مورد الخلقة والخلق وتنظيم وضع عالم الوجود ،لا بمعنى إنزال الدين والشريعة ،ولذلك نرى في آيات القرآن الاُخرىوالآيات يفسّر بعضها بعضاًأنّ هذه الكلمة لم تستعمل مطلقاً في مورد الدين والمذهب ،بل استعملت كلمة «التشريع » أو «التنزيل » أو «الإنزال »:
( شرّع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ){[3298]} .
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الكافرون ){[3299]} .
( نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه ){[3300]} .
3إنّ الآيات التي قبل وبعد هذه الآية مرتبطة بالخلقة وخلق العالم ،ولا ترتبط بتشريع الأديان ،لأنّ الكلام في الآية السابقة كان عن خلق السماء والأرض في ستّة أيّاموبعبارة اُخرى ستّ مراحلوالكلام في الآية التالية عن خلق الإنسان .
ولا يخفى أنّ تناسب وانسجام الآيات يوجب أن تكون هذه الآية المتوسّطة لآيات الخلقة مرتبطة بمسألة الخلقة وتدبير أمر الخلق ،ولهذا فإنّنا إذا طالعنا كتب التّفسير التي كتبت قبل مئات السنين فإنّنا لا نجد أحداً قد احتمل أن تكون الآية متعلّقة بتشريع الأديان ،بالرغم من أنّهم احتملوا احتمالات مختلفة ،فمثلا: مؤلّف تفسير «مجمع البيان »وهو من أشهر التفاسير الإسلامية ،ومؤلّفه عاش في القرن السادس الهجريلم ينقل عن أحد علماء الإسلام قولا يدّعي فيه أنّ الآية ترتبط بتشريع الأديان ،مع أنّه ذكر أقوالا مختلفة في تفسير الآية أعلاه .
4إنّ كلمة «العروج » ،تعني الصعود والارتفاع ،لا نسخ الأديان وزوالها ،ولا يلاحظ العروج في أي موضع من القرآن بمعنى النسخوهذه الكلمة قد ذكرت في خمس آيات من القرآن ،ولا تؤدّي هذا المعنى في أيّ منهابل تستعمل كلمة النسخ أو التبديل وأمثالهما في مورد الأديان .
إنّ الأديان والكتب السماوية في الأساس ليست كأرواح البشر تعرج إلى السماء مع الملائكة بعد انتهاء العمر ،بل إنّ الأديان المنسوخة ،موجودة في الأرض ،إلاّ أنّها تسقط عن الاعتبار في بعض مسائلها ،في حين أنّ اُصولها تبقى على قوّتها .
والخلاصة: فإنّ كلمة العروج علاوة على أنّها لم تستعمل في أيّ موضع من القرآن بمعنى نسخ الأديان ،فهي لا تتناسب مع مفهوم نسخ الأديان ،لأنّ الأديان المنسوخة لا تعرج إلى السماء .
5إضافةً إلى كلّ ما مرّ فإنّ هذا المعنى لا ينطبق على الواقع الحقيقي العيني ،لأنّ الفاصلة بين الأديان السابقة لم تكن ألف سنة في أيّ مورد !
فمثلا: الفاصلة بين ظهور موسى والمسيح ( عليهم السلام ) أكثر من ( 1500 ) سنة ،والفاصلة بين المسيح ( عليه السلام ) وظهور نبي الإسلام العظيم ( صلى الله عليه وآله ) أقلّ من ( 600 ) سنة ،وكما تلاحظون فإنّ أيّاً من هذين الموردين لا ينطبق على الألف سنة التي يقول بها هؤلاء ،بل إنّ الفاصلة بين الواقع وما يدّعون كبيرة .
وذكروا أنّ الفترة الزمنية بين ظهور نوح ( عليه السلام ) الذي كان من أنبياء اُولي العزم ،وواضع دعائم الدين والشريعة الخاصّة ،وبين محطّم الأصنام الصنديد إبراهيم ( عليه السلام )الذي كان نبيّاً آخر من ذوي الشرائع أكثر من ( 1600 ) سنة ،والفترة بين إبراهيم وموسى ( عليهما السلام ) أقلّ من ( 500 ) سنة .
من هذا الموضوع نخلص إلى هذه النتيجة ،وهي أنّه لم تكن هناك فترة ولا فاصلة ،ولو من باب المثال ،بين أحد الأديان والمذاهب وبين الدين الذي يليه بمقدار ألف سنة .
6وإذا غضضنا النظر عن كلّ ما مرّ ،فإنّ بدعة «السيّد علي محمّد باب » والتي تحمل أتباعه لأجل الدفاع عنها كلّ هذه التوجيهات الباطلة لا تتناسب مع هذا الحساب ،لأنّه باعترافهم ولد سنة 1325هجري ،وكان بدء دعوته سنة 1260 هجري قمري ،وبملاحظة أنّ بداية دعوة الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) التي كانت بثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة ،فإنّ الفاصلة بين الاثنين تكون ( 1273 ) أي بإضافة ( 273 ) فماذا نصنع بهذا الفارق الكبير ؟وبأيّة خطّة سنتجاهله ؟
7ولو تركنا جانباً كلّ هذه الإيرادات الستّة ،وصرفنا النظر عن هذه الردود الواضحة ،وجعلنا أنفسنا مكان القرآن ،وأردنا أن نقول للبشرية: كونوا بانتظار نبيّ جديد بعد مرور ألف سنة ،فهل هذا يصحّ طرح هذا المفهوم بالشكل الذي ذكرته الآية ،حتّى لا ينتبه ويطّلع أحد من العلماء وغير العلماء أدنى إطّلاع على معنى الآية على مدى الإثني أو الثلاثة عشر قرناً ،ثمّ يأتي جماعة بعد مرور ( 1273 ) عام ليدّعوا أنّهم اكتشفوا اكتشافا جديداً ،وأزاحوا الغطاء عنه ،وهو مع ذلك لا يتجاوز إطار قبولهم أنفسهم لا قبول الآخرين ؟!
ألم يكن الأحسن والأكثر حكمة وعقلا أن يقال مكان هذه الجملة: اُبشّركم بأنّ نبيّاً بهذا الاسم سيظهر بعد ألف سنة ،كما قال عيسى ( عليه السلام ) في شأن نبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله ): ( ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ){[3301]} .
وعلى كلّ حال ،فهذه المسألة قد لا تستحقّ بحثاً بهذا المقدار إلاّ أنّه لتنبيه وإيقاظ جيل الشباب المسلم ،وإطلاعهم على المكائد التي هيّأها الاستعمار العالمي ،والمسالك والمذاهب التي ابتدعها لتضعيف جبهة الإسلام ،لم يكن لنا سبيل إلاّ أن يعلموا ويطّلعوا على جانب من منطق هؤلاء ،وعليهم الباقي .