التّفسير
غزوة بني قريظة انتصار عظيم آخر:
كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود ،وهم: بنو قريظة ،وبنو النضير ،وبنو قينقاع ،وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النّبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن لا تعين عدوّاً له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ ،وأن يعيشوا مع المسلمين بسلام ،إلاّ أنّ «بني قينقاع » قد نقضوا عهدهم في السنة الثّانية للهجرة ،و «بنو النضير » في السنة الرّابعة للهجرة بأعذار شتّى ،وصمّموا على مواجهة النّبي ( صلى الله عليه وآله ) وانهارت مقاومتهم في النهاية ،وطردوا إلى خارج المدينة ،فذهب «بنو قينقاع » إلى أذرعات الشام ،وذهب بعض «بني النضير » إلى خيبر ،وبعضهم الآخر إلى الشام{[3370]} .
بناءً على هذا فإنّ «بني قريظة » كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب ،وكما قلنا في تفسير الآيات السبع عشرة المتعلّقة بمعركة الأحزاب ،فإنّهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة ،واتّصلوا بمشركي العرب ،وشهروا السيوف بوجه المسلمين .
بعد انتهاء غزوة الأحزاب والتراجع المشين والمخزي لقريش وغطفان وسائر قبائل العرب عن المدينة ،فإنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله )طبقاً للرّوايات الإسلاميةعاد إلى منزله وخلع لامة الحرب وذهب يغتسل ،فنزل عليه جبرئيل بأمر الله وقال: لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد استعدت للحرب ؟عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم .
لم تكن هناك فرصة لتصفية الحساب مع بني قريظة أفضل من هذه الفرصة ،حيث كان المسلمون في حرارة الانتصار ،وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة ،وقد سيطر عليهم الرعب الشديد ،وكان حلفاؤهم من قبائل العرب متعبين منهكي القوى خائري العزائم ،وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة ،ولم يكن هناك من يحميهم ويدافع عنهم .
هنا نادى مناد من قبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر ،فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب ،وما كادت الشمس تغرب إلاّ وكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماماً .
لقد استمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوماً ،وأخيرا سلّموا جميعاًكما سيأتي في البحوثفقُتل بعضهم ،واُضيف إلى سجل انتصارات المسلمين انتصار عظيم آخر ،وتطهّرت أرض المدينة من دنس هؤلاء المنافقين والأعداء اللدودين إلى الأبد .
وقد أشارت الآياتمورد البحثإشارة مختصرة ودقيقة إلى هذه الحادثة ،وكما قلنا فإنّ هذه الآيات نزلت بعد الانتصار ،وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهيّة عظيمة ،فتقول الآية أوّلا: ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ) .
«الصياصي » جمع ( صيصية ) ،أي: القلعة المحكمة ،ثمّ اُطلقت على كلّ وسيلة دفاعية ،كقرون البقر ،ومخالب الديك .ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة ،والتعبير ب ( أنزل ) يدلّ على هذا المعنى .
ثمّ تضيف الآية: ( وقذف في قلوبهم الرعب ) وأخيراً بلغ أمرهم أنّكم ( فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم ) .
إنّ هذه الجمل تمثّل مختصراً وجانباً من نتائج غزوة بني قريظة ،حيث قتل جمع من اُولئك الخائنين على يد المسلمين ،واُسر آخرون ،وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة من جملتها أراضيهم وديارهم وأموالهم .
/خ27