التّفسير
حكم مهمّ آخر فيما يتعلّق بأزواج النّبي:
لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية حكماً آخر من الأحكام المتعلّقة بزوجات النّبي ،فقال عز وجل: ( لا يحلّ لك النساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسنهنّ إلاّ ما ملكت يمينك ) فالآية منعت الرّسول من الزواج الجديد إلاّ الإماء والجواري ( وكان الله على كلّ شيء رقيباً ) .
للمفسّرين وفقهاء الإسلام بحوث كثيرة في هذه الآية ،ووردت في المصادر الإسلامية روايات مختلفة في هذا الباب ،ونحن نذكر أوّلا ما يبدو من ظاهر الآية أنّه مرتبط بالآيات السابقة واللاحقةبغضّ النظر عن أقوال المفسّرينثمّ نتناول المطالب الاُخرى .
الظاهر من تعبير ( من بعد ) أنّ الزواج محرّم عليك بعد هذا ،وبناءً على هذا فإنّ ( بعد ) إمّا أن تعني ( بعد ) الزمانية ،أي لا تتّخذ زوجة بعد هذا الزمان ،أو أنّ المراد أنّك بعد أن خيّرت أزواجك بين البقاء معك والحياة حياة بسيطة في بيتك ،وبين فراقهنّ ،وقد رجّحن البقاء معك عن رغبة منهنّ ،فلا ينبغي أن تتزوّج بعدهنّ بامرأة اُخرى .
وكذلك لا يمكنك أن تطلّق بعضهنّ وتختار مكانهنّ زوجات اُخر .وبتعبير آخر: لا تزد في عددهنّ ،ولا تبدّل الموجود منهنّ .
مسائل مهمّة:
1فلسفة هذا الحكم:
إنّ هذا التحديد للنبي ( صلى الله عليه وآله ) لا يعتبر نقصاً ،بل هو حكم له فلسفة دقيقة جدّاً ،فطبقاً للشواهد التي تستفاد من التأريخ ،أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) كان تحت ضغط شديد من قبل مختلف الأفراد والقبائل بأن يتزوّج بنساء اُخر منهم ،وكلّ واحدة من القبائل المسلمة كانت تفتخر على قبائل العرب بأنّ النّبي قد صاهرهم وحتّى أنّ بعض النساء كنّ على استعداد أن يهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهركما مرّ ذلكويتزوّجنه بدون أيّ قيد أو شرط .
كانت هذه العلاقة الزوجية مع تلك القبائل والأقوام حلاًّ لمشاكل النّبي ( صلى الله عليه وآله )ومحقّقة لأهدافه الاجتماعية والسياسية ،غير أنّها إذا تجاوزت الحدّ ،فمن الطبيعي أن تخلق له المشاكل بنفسها ،وبما أنّ كلّ قبيلة كانت تأمل أن يتزوّج النّبي منها ،فلو أراد النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحقّق آمال الجميع ،ويختار منهم أزواجاً ،حتّى وإن كانت بمجرّد العقد ولا يدخل بها ،فإنّ ذلك سيوجد له مصاعب جمّة .ولذلك فإنّ الله الحكيم قد منع هذا الأمر ووقف دونه بإصدار قانون محكم ،فنهاه عن الزواج الجديد ،وعن تبديل أزواجه .
لقد كان هناك أفراد في هذا الوسط يتوسّلون للوصول إلى هدفهم بحجّة أنّ أغلب أزواجك أيامى ،ومن بينهنّ من لاحظ لها من الجمال ،فاللائق بك أن تتزوّج بامرأة ذات جمال ،ولذلك فإنّ القرآن أكّد على هذه المسألة بأنّه لا يحقّ لك أن تتزوّج النساء فيما بعد وإن أعجبك حسنهنّ وكنّ ذوات جمال .
إضافةً إلى أنّ أداء الجميل ورعايته كان يوجب أن يسنّ الله تعالى مثل هذا القانون ،ويأمر به نبيّه لحفظ مقام أزواجه بعد أن أبدين وفاءهن ،ورجّحن الحياة البسيطة المعنوية مع النّبي ( صلى الله عليه وآله ) على أي شيء آخر .
وأمّا فيما يتعلّق بالجواري والمملوكات باليمين حيث اُبيح الزواح منهنّ ،فإنّما هو من أجل أنّ مشكلة النّبي كانت من ناحية الحرائر ،ولذلك لم تكن هناك ضرورة تدعو إلى تحديد هذا الحكم في طرف الجواري ،مع أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يستفد من هذا الاستثناء طبق الشواهد التأريخية .
هذا هو الشيء الذي يبدو من ظاهر الآية .
2الروايات المخالفة:
اعتبرت جملة: ( لا يحلّ لك النساء من بعد ) في روايات عديدةبعضها ضعيفة من ناحية السند ،وبعضها يستحقّ الملاحظةإشارةً إلى النساء اللواتي بُيّن تحريمهم في الآيتين ( 23 و24 ) من سورة النساءوهنّ الأم والبنت والاُخت والعمّة والخالة و ..،وصرّح في ذيل بعض هذه الأخبار بأنّه: كيف يمكن أن تكون النساء حلال على الآخرين وحرام على النّبي ؟فلم تكن أيّة امرأة محرّمة عليه سوى ما حرّم على الجميع{[3424]} .
طبعاً ،يبدو بعيداً جدّاً أن تكون الآية تشير إلى الآيات الواردة في سورة النساء ،إلاّ أنّ المشكلة هنا أنّ بعض الروايات قد صرّحت بأنّ المراد من ( من بعد ): بعد المحرّمات في آية سورة النساء .
بناءً على هذا ،فإنّ الأفضل هو أن نغضّ النظر عن تفسير روايات الآحاد هذه ،أو كما يقال: ندع علم ذلك إلى أهله ،أي المعصومون ( عليهم السلام ) ،لأنّها لا تنسجم مع ظاهر الآية ،ونحن مكلّفون بظاهر الآية ،والأخبار المذكورة أخبار ظنيّة .
والمطلب الآخر هو أنّ جماعة كثيرة تعتقد بأنّ الآية مورد البحث قد حرّمت كلّ زواج جديد على النّبي ( صلى الله عليه وآله ) إلاّ أنّ هذا الحكم قد نسخ فيما بعد ،وأذن له بالزواج ،وإن كان النّبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يتزوّج بعد ذلك .حتّى الآية ( إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ..) والتي نزلت قبل الآية مورد البحث ،فإنّهم يعتبرونها ناسخة لهذه الآية .ويعتقدون بأنّ هذه الآية وإن كانت قد كتبت في القرآن بعد آية ( إنّا أحللنا ..) إلاّ أنّ الأخيرة قد نزلت قبلها !بل وينقل «الفاضل المقداد » في كنز العرفان بأنّ هذه هي الفتوى المشهورة بين الأصحاب{[3425]} .
وهذا الرأي يتعارض مع الروايات أعلاه بوضوح ،وكذلك لا ينسجم مع ظاهر الآيات أيضاً ،لأنّ ظاهر الآيات يوحي بأنّ آية ( إنّا أحللنا لك أزواجك ) قد نزلت قبل الآية مورد البحث ،ومسألة النسخ تحتاج إلى دليل قطعي .
وعلى كلّ حال ،فليس لدينا شيء أكثر اطمئنانا ووضوحاً من ظاهر الآية نفسها ،وطبقاً لذلك فإنّ كلّ زواج جديد ،أو تبديل زوجات قد حُرّم على النّبي ( صلى الله عليه وآله )بعد نزول هذه الآية ،وكان لهذا الحكم مصالح ومنافع هامّة أشرنا إليها فيما سبق .
3هل يمكن النظر إلى زوجة المستقبل قبل الزواج ؟
اعتبر جمع من المفسّرين جملة ( ولو أعجبك حسنهنّ ) دليلا على حكم معروف أشير إليه في الروايات الإسلامية أيضاً ،وهو: أنّ من أراد من أن يتزوّج بامرأة يستطيع النظر إليها من قبل نظرة تبيّن له هيكلها وأوصافها .
وحكمة هذا الحكم أن يختار الإنسان زوجته عن بصيرة تامّة ولا يندم ويأسف في المستقبل وهو ما يهدّد العلاقة الزوجية والكيان العائلي بالخطر ،كما ورد ذلك في حديث عن النّبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال لأحد أصحابه حينما أراد أن يتزوّج: «انظر إليها ،فإنّه أجدر أن يدوم بينكما »{[3426]} .
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال في جواب هذا السؤال: هل يستطيع الرجل أن يدقّق النظر إلى المرأة إذا أراد الزواج منها وينظر إلى وجهها وخلفها: «نعم ،لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها ،ينظر إلى وجهها وخلفها »{[3427]} .
والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة ،وقد صرّح بعضها بأنّ هذه النظرة يجب أن لا تكون بدافع الشهوة وطلب اللذّة .
وواضح أيضاً أنّ هذا الحكم خاصّ بالموارد التي يريد فيها الإنسان أن يتحقّق فعلا من المرأة التي يريد الزواج منها ،بحيث لو كانت الشروط مجتمعة فيها لتزوّجها ،أمّا الذي لم يصمّم على الزواج بعد ،بل يحتمله ،أو أنّه يريد مجرّد البحث ،فلا يجوز له النظر إلى النساء .
واحتمل البعض في هذه الآية أنّها إشارة إلى النظر للنساء صدفة ولا إرادياً ،وعلى هذا فإنّ الآية لا تدلّ في هذه الحالة على الحكم المذكور آنفاً ،وستكون الروايات هي الدليل الوحيد عليه .إلاّ أنّ جملة: ( ولو أعجبك حسنهنّ ) لا تنسجم مع نظرة الصدفة السريعة ،وبناءً على هذا فإنّ دلالتها على الحكم المذكور تبدو بعيدة .