التّفسير
بماذا رموا موسى ( عليه السلام ) واتّهموه ؟
بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب احترام مقام النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ،وترك كلّ ما يؤذيه والابتعاد عنه ،فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين ،وقالت: ( يا أيّها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرّأه الله ممّا قالوا وكان عند الله وجيهاً ) .
إنّ اختيار موسى ( عليه السلام ) من جميع الأنبياء الذين طالما اُوذوا ،بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر ،إضافةً إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله ) .
وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسى ( عليه السلام ) هنا ؟ولماذا ذكره القرآن بشكل مبهم ؟وقد ذكروا احتمالات عديدة في تفسير الآية ،ومن جملتها:
1إنّ موسى وهارون ( عليهما السلام ) قد ذهبا إلى جبلطبق روايةوودّع هارون الحياة ،فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسى ( عليه السلام ) قد تسبّب في موته ،فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر ،وأسقط ما في يد المرجفين .
2كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص ،فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة ،ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء ،فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسى ( عليه السلام ) بأنّه زنى بها ،إلاّ أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه ،بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسى ( عليه السلام ) وعفته ،وبما أراده منها قارون .
3إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسى ( عليه السلام ) بالسحر والجنون والافتراء على الله ،ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات .
4إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره ،لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقاً ،فأراد أن يغتسل يوماً بمنأى عن الناس ،فوضع ثيابه على حجر هناك ،فتدحرج الحجر بثيابه ،فرأى بنو إسرائيل جسمه ،فوجدوه مبرّأً من العيوب .
5كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسى ( عليه السلام ) ،فقد كانوا يطلبون تارةً أن يريهم الله عز وجل «جهرةً » ،واُخرى يقولون: إنّ نوعاً واحداً من الطعاموهو «المنّ والسلوى »لا يناسبنا ،وثالثة يقولون: إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة «العمالقة » .اذهب أنت وربّك فقاتلا ،وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك !
إلاّ أنّ الأقرب لمعنى الآية ،هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع ،لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسى ( عليه السلام ) من جوانب متعدّدة ..ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة ( لنبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) ) كإشاعة بعض الأكاذيب واتهام زوج النّبي بتهم باطلة ،وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النورذيل الآيات 1120والاعتراضات التي اعترضوا بها على النّبي ( صلى الله عليه وآله ) في زواجه بزينب ،وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته ،أو مناداته باُسلوب خال من الأدب والأخلاق ،وغير ذلك .
وأمّا الاتهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك ،أو العيوب البدنية ،فإنّها وإن اتُّهم موسى بها ،إلاّ أنّها لا تتناسب مع ( يا أيّها الذين آمنوا ) بالنسبة لنبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) إذ لم يتّهم المؤمنون موسى ( عليه السلام ) ولا نبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) بالسحر والجنون .وكذلك الاتهام بالعيوب البدنية ،فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسى ( عليه السلام ) ،وأنّ الله تعالى قد برّأه ،فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّة حال ،فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيهاً وذا منزلة ،فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل ،فكن طاهراً وعفيفاً ،واحفظ وجاهتك عند الله ،فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس ،حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس .
وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف » الصدّيق الطاهر ،وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة .
وكذلك في شأن «مريم » بنت عمران اُمّ عيسى ( عليه السلام ) ،حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها ،وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل ،والذين كانوا يسعون لاتهامها وتلويث سمعتها .
والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصاً بالمؤمنين في زمان النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ،بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى اُولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به ،فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه ،وينسون مواريثه ،ولذلك جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت ( عليهم السلام ): «يا أيّها الذين آمنوا لا تؤذوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ...»{[3456]} .
وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو: أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين ،يجب أنلا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد ،فإنّ الإمام الصادق ( عليه السلام ) يقول: «إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ..» ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث: «ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا ،وكان عند الله وجيهاً »{[3457]} .