تشير الآية التاليةالتي تعتبر قسماً آخر من آيات الآفاق الدالّة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالىإلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها ،فتقول الآية الكريمة: ( وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اُجاج ){[3580]} .
فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من السماء إلى الأرض ،وأنّ كليهما من أصل واحد ،إلاّ أنّهما يظهران على هيئتين متفاوتتين تماماً بشكل كامل وبفوائد متفاوتة أيضاً .
والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كلّ منهما: ( ومن كلّ تأكلون لحماً طريّاً وتستخرجون حلية تلبسونها ) علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والانتقال ( وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون ) .
تأمّل الاُمور التالية:
1«فرات »: على ما ذكر في لسان العرب هو الماء العذب جدّاً .
«سائغ »: الماء الذي يُستمرأ بسهولة لعذوبته ،على عكس الماء المالحأو الاُجاجوهو الماء المرّ الذي يمجّه الإنسان .
2بعض المفسّرين قالوا بأنّ هذه الآية مثال للفرق بين المؤمن والكافر ،ولكن الآيات السابقة واللاحقة لها ،والتي تتحدّث عن الخلقة ،وحتّى نفس هذه الآية ،شاهدة على حقيقة أنّ هذه الجملة أيضاً تبحث في أسرار التوحيد ،وتشير إلى تنوّع المياه وآثارها المتفاوتة وفوائدها المشتركة .
3ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي: المواد الغذائية ،ووسائل الزينة ،ومسألة الحمل والنقل .
ونعلم بأنّ البحر يشكّل منبعاً مهمّاً من المنابع الغذائية للبشر ،وكلّ عام يُستخرج منه ملايين الأطنان من اللحوم الطازجة ،بدون أن يتحمّل الإنسان في سبيل ذلك تعباً أو مشقّة ،فإنّ نظام التوازن في الطبيعة يشتمل على برنامج دقيق محسوب بحيث يستطيع الناس الإفادة من تلك المائدة الإلهيّة بدون اعتراض وبأقل زحمة ومشقّة .
كذلك يستخرج من البحار أيضاً وسائل الزينة المختلفة من أمثال ( اللؤلؤوالمرجانوالصدفوالدرّ ) ،وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي » الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس ،وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء ،وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة .
وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم أسس التمدّن الإنساني والحياة الاجتماعية ،فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها ،فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات بهذا الخصوص .إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار ،وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر ،على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الأخرى ،وعلى سبيل المثال فإنّ سفينة واحدة تستطيع حمل عشرات الآلاف من السيارات على ظهرها{[3581]} .
4بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالأمور التي ذكرت أعلاه ،والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة ،فهناك مسألة تكون الغيوم ،الأدوية النفط ،الألبسة ،الأسمدة للأراضي البور ،التأثير في إيجاد الرياح ..إلى غير ذلك من بركات البحار الاُخرى .
5تأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحماً طريّاً » إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك .
6هنا يثار سؤال وهو أنّ البحار المالحة تملأ الكرة الأرضية في انتشارها ،فأين تقع بحور الماء العذب ؟
وللإجابة يجب القول أنّ بحر وبحيرات الماء العذب أيضاً ليست قليلة في الكرة الأرضية مثل بحيرات الماء العذب في الولايات المتحدة وغيرها ،إضافةً إلى أنّ الأنهر الكبيرة تسمّى بحاراً أيضاً في بعض الأحيان ،فقد ورد استعمال كلمة «البحر » ل ( نهر النيل ) في قصّة موسى ،كما في سورة البقرةالآية 50 والشعراء63 والأعراف138 ) .
كذلك فإنّه يمكن اعتبار مصبّات الأنهار في البحار والمحيطات عبارة عن بحيرات عذبة ،لأنّ مياه الأنهار عند انصبابها في المحيط تدفع مياه البحار وتبقى غير قابلة للاختلاط لمدّة قصيرة .
7جملة ( لتبتغوا من فضله ) لها معنى واسع وشامل لكلّ فعّالية اقتصادية تعتمد على البحر .
بحث
العوامل المعنوية المؤثّرة في طول العمر
قام المفسّرون ببحوث مختلفة بما يتناسب مع البحث الوارد في هذه الآيات حول إطالة وإقصار العمر بأمر الله ،وذلك بما يتوافق مع الروايات الواردة في هذا الخصوص .
طبيعي أنّ هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثّر على طول أو قصر العمر ،والتي أصبح أكثرها معروفاً عند الناس ،كالتغذية الصحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط ،العمل وإدامة الحركة ،تحاشي المواد المخدّرة ،والإدمانات الخطرة والمشروبات الكحولية ،الابتعاد عن المهيّجات المستمرة ،التمسّك بإيمان قوي يساعد الإنسان على العيش باطمئنان وهدوء في الملمّات ،ويعطيه القدرة على مواجهة ذلك .
وإضافة إلى ذلك ،فإنّ هناك عوامل اُخرى غير واضحة الارتباط ظاهراً بقضيّة طول العمر ،ولكن الروايات أكّدت عليها ،وكنموذج نورد الروايات التالية:
أعن الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار »{[3582]} .
بوعنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «من سرّه أن يبسط في رزقه وينسىء له في أجله فليصل رحمه »{[3583]} .
جوفيما يخصّ بعض المعاصي مثل الزنا وأثرها في تقصير عمر الإنسان نقرأ في الرواية المشهورة عن الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ): «يا معشر المسلمين إيّاكم والزنا فإنّ فيه ستّ خصال ،ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ،أمّا التي في الدنيا فإنّه يذهب بالبهاء ،ويورث الفقر ،وينقص العمر »{[3584]} .
دعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنّه قال: «البر وصدقة السرّ ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ،ويدفعان عن سبعين ميتة سوء »{[3585]} .
كذلك فقد وردت الإشارة إلى المعاصي والذنوب الاُخرى كالظلم ،بل مطلق المعاصي .
بعض المفسّرين الذين لم يتمكّنوا من التفريق بين «الأجل المحتوم » و «الأجل المعلّق » اعترضوا على مثل هذه الأحاديث واعتقدوا بأنّها مخالفة لنصّ القرآن وأنّ عمر الإنسان له حدّ ثابت لا يتغيّر .
توضيح المسألة:لا شكّ أن للإنسان أجلا محتوماً وأجلا معلّقاً .
الأجل المحتوم الذي هو نهاية استعداد الجسم للبقاء ،وبحلوله ينتهي كلّ شيء بأمر الله .
الأجل المعلّق أو المخروم الذي ينتفي بانتفاء شرائطه ،مثلا إنسان ينتحر فلو أنّه لم يقم بتلك الكبيرة فإنّه سيبقى لسنوات اُخرى يواصل حياته .أو أنّه نتيجة تعاطي المشروبات الكحولية والمواد المخدّرة وممارسة الشهوات بدون قيد أو شرط ،يفقد الجسم قدراته في مدّة قصيرة .في حال أنّه بالابتعاد عن هذه الاُمور يستطيع أن يعيش لسنوات طويلة اُخرى .
هذه اُمور قابلة للإدراك والتجربة بالنسبة إلى الجميع ،ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك .
كذلك فإنّه فيما يخصّ الأقدار فإنّ هناك اُموراً ترتبط بالأجل المخروم ،وهي أيضاً غير قابلة للإنكار .
وعليه فإذا ورد في الروايات أنّ الإنفاق في سبيل الله أو صلة الرحم تطيل العمر وتدفع أنواعاً من البلاء ،فهي في الحقيقة تقصد هذه العوامل .
وإذا لم نفصل بين الأجل المخروم والأجل المحتوم لا يمكننا إدراك كثير من الامور المتعلّقة بالقضاء والقدر ،وتأثير الجهاد والسعي والعمل الدائب في الحياة ،وسوف تبقى هذه الاُمور غير قابلة للحلّ .
هذا البحث يمكن توضيحه بمثال واحد بسيط وهو الآتي:
لو اشترى أحدهم سيارة جديدة بحيث يتوقّع من صناعتها أن تدوم عشرين عاماً ،بشرط المحافظة عليها وصيانتها ،وفي هذه الحالة فإنّ الأجل الحتمي لهذه السيارة هو عشرون عاماً ،ولكن لو لم تتحقّق لها الصيانة المطلوبة وقام صاحبها بتسليمها إلى أشخاص لا مبالين وغير عارفين بقيادة السيارات ،أو أن يحملها فوق طاقتها ،أو أن يقودها بعنف في طرق وعرة يومياً ،فإنّ أجلها المحتوم ذلك يمكن أن يهبط إلى النصف أو العشر ،وذلك هو الأجل المخروم ،ونحن نعجب كيف أنّ بعض المفسّرين لم يلتفتوا إلى هذه القضية الواضحة .