وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر والأحياء الاُخرى ،فيقول تعالى: ( ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ) .
أجل ،فالبشر مع كونهم جميعاً لأب واُمّ واحدين ،إلاّ أنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماماً ،فالبعض أبيض البشرة كالوفر ،والبعض الآخر أسود كالحبر ،وحتّى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضاً ،بل إنّ التوأمين الذين يطويان المراحل الجنينية معاً ،واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء ،إذا دقّقنا النظر نجدهما ليسا من لون واحد ،مع أنّهما من نفس الأبوين ،وتمّ انعقاد نطفتيهما في وقت واحد ،وتغذّيا من غذاء واحد .
ناهيك عن التفاوت والاختلاف الكامل في بواطنهم عدّ أشكالهم الظاهرية ،وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم واستعداداتهم وذوقهم ،بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقل منسجم بكلّ احتياجاته الخاصّة .
في عالم الكائنات الحيّة أيضاً يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات ،الطيور ،الزواحف ،الحيوانات البحرية ،الوحوش الصحراوية ،بكلّ خصائصها النوعية وعجائب خلقتها .كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها .
حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول والحيرة والدهشة بحيث أنّنابلا وعي منّانتوجّه بالشكر والثناء لله المبدع لكلّ هذا الفن الخلاّب على صفحة الوجود .مع أنّنا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلاّ جزءً من آلاف الأجزاء من الموجودات الحيّة في العالم .
وبعد عرض تلك الأدلّة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعاً: نعم إنّ الأمر كذلك ( كذلك ){[3600]} .
ولأنّ إمكانية الانتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكّرين يقول تعالى في آخر الآية: ( إنّما يخشى الله من عباده العلماء ) .
نعم فالعلماء من بين جميع العباد ،هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه » ،حالة ( الخشية ) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية ،والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق .
الراغب في مفرداته يقول: «الخشية خوف يشوبه تعظيم ،وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه ،ولذلك خصّ العلماء بها » .
قلنا تكراراً بأنّ الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها الإنسان ،الخوف من أن يقصّر في أداء رسالته ووظيفته ،ناهيك عن أنّ إدراك جسامة تلك المسؤولية يؤدّي أيضاً إلى الخشية ،لأنّ الله المطلق قد عهد بها إلى الإنسان المحدود الضعيف ،( تأمّل بدقّة ) !!
كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمناً بأنّ العلماء الحقيقيين هم اُولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم ،وبتعبير آخر: أهل عمل لا كلام ،إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية ،ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه .
هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام )حيث يقول: «وما العلم بالله والعمل إلاّ إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه ،وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله ،وإنّ أرباب العلم وأتباعهم ( هم ) الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه ،وقد قال الله: ( إنّما يخشى الله من عباده العلماء ) »{[3601]} .
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم »{[3602]} .
وفي حديث آخر جاء «أعلمكم بالله أخوفكم لله »{[3603]} .
ملخّص القول أنّ العلماءبالمنطق القرآنيليسوا اُولئك الذين تحوّلت أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين والمعادلات العلميّة للعالم وتلهج بها ألسنتهم ،أو الذين سكنوا المدارس والجامعات والمكاتب ،بل إنّ العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم والمعرفة كلّ وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى ،والذين هم أشدّ الناس ارتباطا بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها .
نقرأ في سورة القصص أيضاً أنّه حينما اغترّ «قارون » واستشعر الرضى عن نفسه وادّعى لها مقام العلم ،قام يعرض ثروته أمام الناس ،وتمنّى عبّاد الدنيا الذين أسرتهم تلك المظاهر البرّاقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية ،ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم: إنّ ثواب الله خيرٌ وأبقى لمن آمن وعمل صالحاً ،ولا يفوز بذلك إلاّ الصابرون المستقيمون: ( وقال الذين اُوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلاّ الصابرون ){[3604]} .
وفي ختام الآية يقول تعالى ،كدليل موجز على ما مرّ: ( إنّ الله عزيز غفور ) .
«عزّته » وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء ،و ( غفرانه ) ،سبب في الرجاء والأمل عندهم ،وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدّسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء ،ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الاتصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافئ .