والدليل على هذا الكلام الآيات التالية ،والتي هيفي الحقيقةتعكس استجابة البارئ عز وجل لطلب سليمان ،وتتحدّث عن تسخير الرياح والشياطين لسليمان ،وكما هو معروف فإنّ هذا الأمر هو من خصائص ملك سليمان .
ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثاني الذي يقول ،وفقاً لعقائدنا نحن المسلمون ،فإنّ ملك المهدي ( عجّل الله تعالى فرجه ) سيكون ملكاً عالياً ،وبالنتيجة سيكون أوسع من ملك سليمان .لأنّ ملك المهدي ( عجّل الله تعالى فرجه ) مع سعته وخصائصه التي تميّزه عن بقيّة الممالك ،فإنّه يبقى من حيث الخصائص مختلفاً عن ملك سليمان ،وملك سليمان يبقى خاصّاً به .خلاصة الأمر أنّ الحديث لم يختّص بزيادة ونقصان وتوسعة ملكه وطلب الاختصاص به ،وإنّما اختصّ الحديث بكمال النبوّة والذي يتمّ بوجود معجزات خصوصية ،لتميّزه عن نبوّة الأنبياء الآخرين ،وسليمان كان طلبه منحصراً في هذا المجال .
ولقد ورد في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السلام )في ردّه على سؤال يقول: إنّ دعوة سليمان فيها بخل ،إذ جاء في الحديث أنّ أحد المقرّبين عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وهو علي بن يقطين سأل الإمام ( عليه السلام ) قائلا: أيجوز أن يكون نبي الله عز وجل بخيلا ؟
فقال: «لا » .
فقلت له: فقول سليمان ( عليه السلام ): ( ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ) ما وجهه ومعناه ؟
فقال: «الملك ملكان: ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ،وملك مأخوذ من قبل الله تعالى كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين ،فقال سليمان ( عليه السلام ): هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ،فسخّر الله عز وجل له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب ،وجعل غدوّها شهراً ورواحها شهراً ،وسخّر الله عز وجل له الشياطين كلّ بنّاء وغوّاص ،وعلّم منطق الطير ومكّن في الأرض ،فعلم الناس في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور .
قال: فقلت له: فقول رسول الله: «رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله » ؟
فقال: «لقوله ( عليه السلام ) وجهان: أحدهما: ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه ،والوجه الآخر يقول: ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهّال »{[3814]} .
الآيات التالية تبيّنكما قلناموضوع استجابة الله سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكاً يتميّز بامتيازات خاصّة ونعم كبيرة ،يمكن إيجازها في خمسة أقسام:
1تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير ،كما تقول الآية: ( فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) .
من الطبيعي أنّ الملك الواسع الكبير يحتاج إلى واسطة اتّصال سريعة ،كي يتمكّن صاحب ذلك الملك من تفقّد كلّ مناطق مملكته بسرعة في الأوقات الضرورية ،وهذا الامتياز منحه الباري عز وجل لسليمان ( عليه السلام ) .
أمّا كيف كانت الرياح تطيع أوامره ؟
وبأي سرعة كانت تسير ؟
وعلى أي شيء كان سليمان وأصحابه يركبون أثناء انتقالهم من مكان إلى آخر عبر الرياح ؟
وما هي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن انخفاض وارتفاع ضغط الهواء ،وغيرها من المشاكل .
خلاصة الأمر: ما هي هذه الواسطة السريّة وذات الأسرار الخفيّة التي كانت موضوعة تحت تصرّف سليمان في ذلك العصر ؟
تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا ،وكلّ ما نعرفه أنّ تلك الاُمور الخارقة توضع تحت تصرّف الأنبياء لتسهّل لهم القيام بمهامهم .وهذه القضايا ليست بقضايا عادية ،وإنّما هي نعم خارقة ومعجزات ،وهذه الأشياء تعدّ شيئاً بسيطاً في مقابل قدرة الباري عز وجل ،وما أكثر المسائل التي نعرف أصلها في الوقت الذي لا نعرف أي شيء عن جزئياتها .
وهنا يطرح سؤال ،وهو: كيف يمكن أن تتطابق عبارة ( رخاء ) الواردة في هذه الآية ،والتي تعني ( اللين ) مع عبارة ( عاصفة ) والتي تعني الرياح الشديدة والواردة في الآية ( 81 ) من سورة الأنبياء: ( ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ) .
لهذا السؤال جوابان:
الأوّل: وصف الرياح بالعاصفة لبيان سرعة حركتها ،ووصفها بالرخاء لبيان حركتها الهادئة والرتيبة ،أي إنّ سليمان وأصحابه لم يكونوا يشعرون بأيّ انزعاج من جرّاء حركة الرياح السريعة ،فهي كالوسائل السريعة السير الموجودة حالياً ،التي يشعر الإنسان معها كأنّه جالس في إحدى غرف بيته ،بينما تسير به تلك الوسيلة بسرعة عالية جدّاً .
وقد ذكر بعض المفسّرين جواباً آخر على ذلك السؤال ،وهو: إنّ هاتين الآيتين تشيران إلى نوعين من الرياح سخّرهما الله سبحانه وتعالى لسليمان ،إحداهما كانت سريعة السير ،والثانية بطيئة .
/خ40