التّفسير:
حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر:
الآيات السابقة تحدّثت عن سليمان ( عليه السلام ) وعن القدرة التي منحها إيّاه البارئ عز وجل ،والتي كانت بمثابة البشرى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولمسلمي مكّة الذين كانوا يعيشون تحت ضغوط صعبة .
آيات بحثنا هذا تتحدّث عن أيّوب الذي كان اُنموذجاً حيّاً للصبر والاستقامة ،وذلك لتعطي درساً لمسلمي ذلك اليوم ويومنا الحاضر وغداً ،درساً في مقاومة مشاكل وصعاب الحياة ،ولتدعوهم إلى الإتّحاد والتعاون ،كما وضّحت العاقبة المحمودة للصبر والصابرين .
وأيّوب هو ثالث نبي من أنبياء الله تستعرض هذه السورة ( سورة ص ) جوانب من حياته ،وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى تذكّر هذه القصّة ،وحكايتها للمسلمين ،كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم ،ولا ييأسوا من لطف ورحمة الله .
اسم «أيّوب » أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد ،منها الآية ( 163 ) في سورة النساء ،والآية ( 84 ) في سورة الأنعام التي ذكرت اسمه في قائمة أنبياء الله الآخرين ،وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته ،بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء ،وإنّما اعتبره أحد عباد الله المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين .
كما أنّ الآيات ( 83 ) و84 ) في سورة الأنبياء استعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوب ( عليه السلام ) ،أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصّلة أكثر من أيّ سورة أخرى من خلال أربعة آيات:
فالأولى تقول: ( واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب ):
«نصب » على وزن ( عسر ) ،و ( نصب ) على وزن ( حسد ) ،وكلاهما بمعنى البلاء والشرّ .
هذه الآية تبيّن أوّلا علوّ مقام أيّوب عند الباري عز وجل ،وذلك من خلال كلمة «عبدنا » ،وثانياً فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الابتلاءات الشديدة التي لا تطاق ،وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوب ( عليه السلام ) .
ولم يرد في القرآن الكريم شرحاً مفصّلا لما جرى على أيّوب ( عليه السلام ) ،وإنّما نقرأ في كتب الحديث المعروفة والتفاسير تفاصيل هذه القصّة .
ففي تفسير نور الثقلين نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علّة كانت ؟( لعلّ السائل كان يظنّ أنّ أيّوب ابتلي بما ابتلي به لمعصية ارتكبها ) فأجاب ( عليه السلام ) بقوله: «لنعمة أنعم الله عز وجل عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها ،وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش ،فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوب ( عليه السلام ) حسده إبليس ،فقال: يا ربّ ،إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلاّ بما أعطيته من الدنيا ،ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك شكر نعمة أبداً ،فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنّه لم يؤدّ إليك شكر نعمة أبداً » .
( ولكي يوضّح البارئ عز وجل إخلاص أيّوب للجميع ،ويجعله نموذجاً حيّاً للعالمين حتّى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ،سمح الباري عز وجل للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب ) .
«فقال له الباري عز وجل: قد سلّطتك على ماله وولده ،قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولداً إلاّ أعطبه ( أي أهلكه ) فازداد أيّوب لله شكراً وحمداً .قال: فسلّطني على زرعه يا ربّ ،قال: قد فعلت ،فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ،فازداد أيّوب لله شكراً وحمداً ،فقال: يا ربّ سلّطني على غنمه ،فسلّطه على غنمه فأهلكها ،فازداد أيّوب لله شكراً وحمداً ،فقال: يا ربّ سلّطني على بدنه فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه ،فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه ،فبقي في ذلك دهراً طويلا يحمد الله ويشكره » .
( ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحاً عميقاً ،وذلك عندما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل ) .
«وقالوا له: يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعلّ الله كان يهلكنا إذا سألناه ،وما نرى ابتلاك بهذا الابتلاء الذي لم يبتل به أحد إلاّ من أمر كنت تستره ؟فقال أيّوب ( عليه السلام ): وعزّة ربّي لم أرتكب أي ذنب ،وما أكلت طعاماً إلاّ ويتيم أو ضعيف يأكل معي » .
حقّاً إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألماً عليه من أيّة مصيبة أخرى حلّت به ،ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره ،ولم يلوّث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر ،وإنّما توجّه إلى البارئ عز وجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفاً ،أي قوله تعالى: ( انّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب ) ولكونه خرج من الامتحان الإلهي بنتيجة جيّدة ،فتح الباري عز وجلمرّة أخرىأبواب رحمته على عبده الصابر المتحمّل أيّوب ،وأعاد عليه النعم التي افتقدها الواحدة تلو الأخرى ،لا بل أكثر ممّا كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد ،وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمّل والشكر .
بعض كبار المفسّرين ،احتملوا أنّ الوساوس التي وسوس بها الشيطان في قلب أيّوب هي المقصودة من أذى وعذاب الشيطان لأيّوب ،إذ كان يقول له أحياناً: لقد طالت فترة مرضك ،ويبدو أنّ ربّك قد نسيك !
وأحياناً كان يقول له: ما زلت تشكر الله رغم أنّه أخذ منك النعم العظيمة والسلامة والقوّة والقدرة !
يحتمل أنّهم ذكروا هذا التّفسير لكونهم يستبعدون إمكانية تسلّط الشيطان على الأنبياء كأيّوب ،ولكن مع الانتباه إلى أنّ هذه السلطة: أوّلا: كانت بأمر من الله .وثانياً: محدودة ومؤقتة .وثالثاً: لامتحان هذا النّبي الكبير ورفع شأنه ،فلا إشكال في ذلك .
على أيّة حال ،قيل: إنّ فترة ألمه وعذابه ومرضه كانت سبع سنين ،وفي رواية أخرى قيل: إنّها كانت ( 18 ) سنة ،وحالته وصلت إلى حدّ بحيث تركه أصحابه وحتّى أقرب المقربين إليه ،عدا زوجته التي صمدت معه وأظهرت وفاءها له .وهذا شاهد على وفاء بعض الزوجات !
وأشدّ ما آذى وآلم روح أيّوب ( عليه السلام ) من بين ذلك الأذى والعذاب الذي مرّ به ،هو شماتة أعدائه ،لذا فقد جاء في إحدى الروايات أنّ أيّوب ( عليه السلام ) سئل بعد ما عافاه الله ،أيّ شيء كان أشدّ عليك ممّا مرّ ؟فقال: شماتة الأعداء .