وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين ،تشير الآية التالية ،إلى ثلاثة آخرين ،إذ تقول: ( واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل كلّ من الأخيار ) .
فكلّ واحد منهم كان مثالا واُسوة في الصبر والاستقامة وطاعة أوامر البارئ عز وجل ،خاصّة «إسماعيل » الذي كان على استعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل الله ،ولهذا السبب اُطلق عليه لقب ( ذبيح الله ) وهو الذي ساهم مع والده إبراهيم ( عليه السلام ) في بناء الكعبة الشريفة وتثبيت اُسس التجمّع العظيم الذي يتمّ في موسم الحجّ كلّ عام .
واستعراض آيات القرآن الكريم لحياة أولئك العظام ليستلهم منها رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلّ المسلمين العبر ،ومطالعة حياة أمثال هؤلاء الرجال العظام توجّه حياة الإنسان ،وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار ،وتجعله في نفس الوقت صابراً صامداً أمام المشاكل والحوادث الصعبة .
عبارة ( كلّ من الأخيار ) تشير إلى أنّ الأنبياء الثلاثة ( إسماعيل ،واليسع ،وذو الكفل ) تنطبق عليهم كافّة الصفات التي وصف بها الأنبياء الثلاثة السابقون ( إبراهيم ،وإسحاق ،ويعقوب ) الذين أطلقت عليهم الآية السابقة صفة ( الأخيار ) ،كما أنّ ( الخير المطلق ) له معان واسعة تشمل ( النبوّة ) و ( الدار الآخرة ) و ( مقام العبودية ) و ( العلم والقدرة ) .
أمّا ( اليسع ) فقد ورد اسمه مرتين في القرآن المجيد ،إحداها في هذه السورة ،والأخرى في الآية ( 86 ) من سورة الأنعام ،وما جاء في القرآن الكريم يوضّح أنّه من الأنبياء الكبار ومن الذين يقول عنهم القرآن في آياته: ( وكلا فضّلنا على العالمين ) .
البعض يعتقد أنّ ( اليسع ) هو ( يوشع بن نون ) أحد أنبياء بني إسرائيل المعروفين ،وقد دخلت الألف واللام على اسمه كما اُبدلت الشين بالسين ،ودخول الألف واللام على الاسم غير العربي ( وهذا اسم عبري ) أمر غير جديد ،فمثلها مثل ( إسكندر ) التي تلفظ وتكتب بالعربية ( الإسكندر ) إذ هو نوع من التقريب .
في حين أنّ البعض يعتبرها كلمة عربية مشتقّة من ( يسع ) والتي هي فعل مضارع مشتقّ من ( وسعت ) ولتحويله إلى اسم اُضيف إليه الألف واللام .
الآية ( 86 ) من سورة الأنعام بيّنت أنّه من ذريّة إبراهيم ،ولكن لم تبيّن إن كان من أنبياء بني إسرائيل ،أم لا ؟
أمّا فصل الملوك في كتاب التوراة فقد جاء فيه أنّ اسمه ( اليشع ) بن ( شافات ) ،ومعنى ( اليشع ) في اللغة العبرية هو ( الناجي ) فيما تعني ( الشافات ) ( القاضي ) .
وقد اعتبر قسم آخر أنّه ( الخضر ) ولم يتوفّر بعد أيّ دليل واضح على هذا القول .
واعتبر قسم آخر أنّه ( ذو الكفل ) وهذا الكلام مخالف بوضوح لما جاء في الآية مورد بحثنا ،لأنّ ذا الكفل معطوفاً على اليسع .
وعلى أيّة حال ،فإنّ اليسع هو نبي له مقام رفيع وذو استقامة ،وما ذكرناه بشأنه كاف للاستلهام منه .
وأمّا ( ذو الكفل ) فهو أيضاً معروف بأنّه أحد أنبياء الله ،وذكره ورد مع أنبياء آخرين في الآية ( 85 ) من سورة الأنبياء ،وجاء بالضبط بعد اسم إسماعيل وإدريس .والبعض يعتقد أنّه من أنبياء بني إسرائيل ،وأنّه من أبناء أيّوب واسمه الحقيقي ( بشر ) أو ( بشير ) أو ( شرف ) والبعض يرى أنّه ( حزقيل ) وذو الكفل هو لقب اُطلق عليه .
وحول تسمية ( ذي الكفل ) بهذا الاسم ( الكفل يعني النصيب ) ويعني ( الكفالة والتعهّد ) وردت عدّة تفاسير ،منها:
قال البعض: إنّه سمّي بذي الكفل لأنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليه نصيباً وافراً من الثواب وشمله برحمته الواسعة .
وقال بعضهم: لأنّه التزم بتعهّده بقيام الليل بالعبادة ،وصيام النهار ،وعدم السخط من قضاء الله ،وبهذا اُطلق عليه هذا اللقب .
وبعض آخر قال: سمّي بذي الكفل لأنّه تكفّل بمجموعة من أنبياء بني إسرائيل ،وأنقذهم من ملوك زمانهم الجبّارين .
وعلى أيّة حال ،فإنّ ما في حوزتنا اليوم من معلومات عن نبي الله ذي الكفل يدلّ على استقامته في طريق طاعة وعبادة الله ،ومقاومة الجبابرة ،وأنّه نموذج بارز ليومنا الحاضر وما بعده ،رغم أنّ البعد الزمني بيننا وبينهم يحول دون المعرفة الدقيقة لتفاصيل أحوالهم .