أما أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون الله: ( فاعبدوا ما شئتم من دونه ) .
ثمّ تضيف: ( قل إنّ الخاسرين اللذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) .أي إنّهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم ،ولا من عوائلهم وأولادهم لإنقاذهم ،ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم ،وهذا هو الخسران العظيم: ( ألا ذلك هو الخسران المبين ) .
حقيقة الخسران !
يرى الراغب في مفرداته أنّ الخسران يعني ذهاب رأس المال كلّه أو بعضه ،وأحياناً تنسب إلى الإنسان ،عندما يقال: ( الشخص الفلاني خسر ) وأحياناً تنسب إلى العمل عندما يقولون: ( خسرت تجارته ) .
وتستخدم كلمة ( خسران ) أحياناً في حالة فقدان الثروة الظاهرية ،كالمال والجاه ،الدنيوي ،وأحياناً أخرى تستخدم في حالة فقدان ثروة معنوية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ،وهذا هو الشيء الذي سمّاه البارئ عز وجل ( الخسران المبين ) فكلّ خسران ذكره البارئ عز وجل في القرآن الكريم إنّما يشير إلى المعنى الثّاني وليس إلى الخسران الخاص بثروات الدنيا وتجارتها .
وقد شبّه القرآن الإنسان بتجارة الأثرياء الذين يدخلون أسواق التجارة العالمية برؤوس أموال كبيرة ،فالبعض منهم يجني أرباحاً كبيرة ،والبعض الآخر يخسر خسارة فادحة .
آيات كثيرة في القرآن المجيد تطرقت إلى مثل هذا التعبير والتشبيه ،حيث توضح الحقيقة التالية: إنّ النجاة من العذاب الإلهي لا تتحقق بالجلوس وانتظار هذا وذاك ،وإن السبيل الوحيد للنجاة هو الاستفادة من الثروة ،وبذل الجهود والمساعي في هذه التجارة الكبيرة ،لأنّ كلّ شيء يعطى بثمن ،ولا يعطى بالمعاذير !
وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب وصف خسارة المشركين والمذنبين بالخسران المبين ؟
الجواب هو:
أوّلا: لأنّهم باعوا أفضل ثروة لديهمأي العمر والعقل والإدراك والعواطف الإنسانيةبدون مقابل .
ثانياً: لو أنّهم باعوا تلك الثروة من دون أن يشتروا العذاب والعقاب لكان أمراً هيناً بعض الشيء ،لكنّ الأمر لم يكن كذلك إذ أنّهم بخسرانهم لتلك الثروة العظيمة هيأوا لأنفسهم عذاباً أليماً وعظيماً .
ثالثا: إنّ هذه الخسارة التي لا يمكن أن تعوّض بأيّ ثمن ،وهذه هي ( الخسران المبين ) .
-ما هو المراد من الآية: ( فاعبدوا ما شئتم )
عبارة ( فاعبدوا ما شئتم ) جاءت بصيغة أمر تهديدي ،وهذا الأُسلوب يستعمل عندما لا تؤثر النصيحة والموعظة بالشخص المجرم والمذنب ،إذ أنّ آخر ما يقال له: ( افعل ما تشاء ،ولكن انتظر العقاب أيضاً ) ويعني أنّك وصلت إلى درجة لا تستحقّ معها النصيحة والموعظة ،وأنّ مصيرك وعلاجك هو العذاب الأليم .
من هم الأهل ؟
الآيات المذكورة أعلاه تقول: إنّ أُولئك الخاسرين لم يخسروا ثروة وجودهم فحسب ،وإنّما خسروا أهليهم أيضاً .
بعض المفسّرين قال: إنّ المراد من ( أهل ) هم أتباع الإنسان والسائرون على نهجه .
والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني الزوجات القاصرات الطرف في الجنّة ،اللواتي خسرهن المشركون والمجرمون .
والبعض الآخر يقول: إنّها تعني العائلة والأقارب في الدنيا .
والمعنى الأخيرمع الالتفات إلى أنّه المعنى الأصلي لهذه الكلمةيعد أنسب من الجميع ،لأن الكافر يخسر أهله يوم القيامة ،إذ ينفصلون عنه وإن كانوا مؤمنين ،وأما إذا كانوا مشركين فمضافاً الى أنّهم لا ينفعونهم ،سيكونون سبباً في زيادة العذاب الأليم .