التّفسير
عباد الله الحقيقيون:
استخدم القرآن الكريم مرّة أخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات ،إذ قارن بين عباد الله الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنّم ،قال تعالى: ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى ) .
ولكون كلمة ( البشرى )جاءت هنا بصورة مطلقة وغير محدودة ،فتشمل كافة أنواع البشرى بالنعم الإِلهية المادية والمعنوية ،وهذه البشرى بمعناها الواسع تختص فقط بالذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وعمدوا إلى عبادة الله وحده من خلال إيمانهم به وعملهم الصالح .
وكلمة «طاغوت » من مادة ( الطغيان ) تعني الاعتداء وتجاوز الحدود ،ولذا فإنّها تطلق على كلّ متعدّ ،وعلى كلّ معبود من دون الله ،كالشيطان والحكام المتجبرين ( وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع ) .
فعبارة ( اجتنبوا الطاغوت )بمعناها الواسع تعني الإبتعاد عن كلّ أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهوى النفس والشيطان ،وتجنب الإنصياع والإستسلام للحكام المتجبرين الطغاة .
أمّا عبارة ( أنابوا إلى الله ) فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان ،وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى .
ويجب الالتفات إلى أنّ عبادة الطاغوت لا تعني فقط الركوع و السجود له ،وإنّما تشمل كلّ طاعة له ،كما ورد في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) «من أطاع جباراً فقد عبده » .
ثم تعرج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول: ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أُولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) .
الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي ،وقد بيّنتا حرية الفكر عند المسلمين ،وحرية الاختيار في مختلف الأُمور .
ففي البداية تقول ( بشر عباد ) ثمّ تعرّج على تعريف أُولئك العباد المقربين بأنّهم أُولئك الذين لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم ،والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوّة العقل والإدراك ،إذلا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم ،ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم ،إنّهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها ،فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة ،ليشربوا من نبعها الصافي من دون أيّ حتى يرتووا .
إنّهم ليسوا طالبين للحق ومتعطشين للكلام الحسن وحسب ،بل هم يختارون الأجود والأحسن من بين ( الجيد ) و ( الأجود ) و ( الحسن ) و ( الأحسن ) ،وخلاصة الأمر فإنّهم يطمحون لنيل الأفضل والأرفع ،وهذه هي علامات المسلم الحقيقي المؤمن الساعي وراء الحق .
سبب النّزول
ذكر المفسّرون أسباباً لنزول هذه الآيات ،ومنها ،أنّ الآية: ( و الذين اجتنبوا الطاغوت ...) والآية التي تلتها نزلتا بحق ثلاثة أشخاص ( لم يستسلموا في عهد الجاهلية لغوغاء المشركين في مكّة ) كانوا يقولون لا إله إلا الله ،والثلاثة هم ( سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وزيد بن عمرو )
وقد ورد اسم ( سعيد بن زيد ) بدلا ( زيد بن عمرو ) في بعض الرّوايات .والبعض الآخر قال: إنّ الآية: ( أفمن حق عليه كلمة العذاب ...) نزلت بشأن ( أبي جهل ) وأمثاله .
وغير مستبعد أن تكون هذه الرّوايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق الواضحة وليس أسباباً للنزول .