ولبعث السرور في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين ،جاء في آخر الآية: ( لكن الذين اتقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف ) .
فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النّار ،كما ورد في الآية السابقة: ( لهم من فوقهم ظلل من النّار ومن تحتهم ظلل ) فإنّ لأهل الجنّة غرفاً من فوقها غرف أخرى ،وقصور فوقها قصور أخرى ،لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر .
«غرف » جمع «غرفة »من مادة «غرف » وعلى وزن حرفبمعنى تناول الشيء ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه «غرفة » ثمّ أطلقت على الطبقات العليا من المنازل .
وكشفت الآية أيضاً عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها ( تجري من تحتها الأنهار ) نعم ،هذا وعد الله ( وعد الله لا يخلف الله الميعاد ) .
بحوث
1منطق حرية التفكير في الإسلام
الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع و آراء بقية المذاهب ،إذ أنّهم يخافون من أن تكون حجّة الآخرين أقوى من حجّتهم الضعيفة وبالتالي فقدان أتباعهم .
إلاّ أنّ الإسلامشاهدنا في الآيات المذكورة أعلاهينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال ،إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا يرهبون سماع أراء الآخرين ،ولا يستسلمون لشيء من دون أي قيد أو شرط ،ولا يتقبلون كلّ وسواس .
الإسلام الحنيف يبشّر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ،الذينلا يكتفون بترجيح الجيد على السيئ ،وإنّما ينتخبون الأحسن ثمّ الأحسن من كلّ قول ورأي .
ويوبّخبشدّة الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما سمعوا صوت الحق ،كما ورد في قول نوح( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما شكى قومه للبارئ عز وجل: ( و إنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ) .
وأساسا فإنّ المذهب القوي الذي يملك منطقاً قوياً لا يرهب أقوال الآخرين ،ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب ،لأنّه أقوى منها وهي التي ينبغي أن تخافه .
هذه الآية وضعتفي نفس الوقت الذين يتبعون أيّ قول يقال لهم من دون أيّ تفكير في مدى صدقه ،وحتى أنّهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي ،وضعتهم خارج صف ( أولوا الألباب ) والذين ( هداهم الله ) .فهاتان الصفتان تختصّان بالذين لم يبتلوا بالاستسلام المفرط من دون أيّ قيد أو شرط ،والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى .
2الردّ على بعض الأسئلة
من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدّة أسئلة ،منها:
1لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال .
2لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار .
3كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من السيئ ،ألا يستلزم هذا المعنى الدور ؟
الجواب على السؤال الأوّل واضح ،لأنّ البحث المتعلّق بالآيات المذكورة أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية ،ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنّه يخرج من هذا الأمر ،فالإسلام لا يسمح بأن يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه .وبالطبع فإنّه مادام الأمر لم يثبت لأحد ،أي ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأخرى لقبول الدين الصحيح ،لا بأس بمطالعة كلّ تلك الكتب ،ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادّة سامّة ،ويجب إبعادها عن متناول الجميع .
أمّا بالنسبة إلى السؤال الثّاني ،فإنّه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن ،ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر يفكر حقّاً بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف ،فإن إعطاء القرآن هنا لا يعدّ أمراً ممنوعاً ،بل يعدّ واجباً ،والعلماء الذين حرّموا ذلكلا يقصدون هذا المعنى .
ولهذا فإنّ الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصرّ بشدّة على ترجمة القرآن إلى بقية اللغات الحية في العالم ،ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة .
وأمّا بشأن السؤال الثّالث ،فيجب الالتفات إلى أنّه في كثير من الأحيانلا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما ،ولكن عندما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل .
وعلى سبيل المثال ،من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفنّ الإعمار والبناء حتى أنّه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة ،ولكنّه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السيئ غير المتناسق ،كما أنّ هناك أشخاصاً كثيرين ليسوا بشعراء ،إلاّ أنّهم يتمكنون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر .هناك أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين ،وانتخاب الجيد منهم .
3نماذج من الروايات الإسلامية التي تؤّكد على حرية التفكير
وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ،كما وردت أحاديث مستقلة تؤكّد على هذا الموضوع ،ومنها ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر( عليه السلام ) ،خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا: «يا هشام ،إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه ،فقال ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) » .
وورد حديث آخر عن الأمام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير الآية المذكورة أعلاه ،قال فيه: «هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه ،لا يزيد فيه ولا ينقص » .
وبالطبع ،فإنّ تفسير ( فيتبعون أحسنه ) هو المقصود في هذا الحديث ،لأن إحدى علامات اتباع القول الحسن ،هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شيء على القول ،وينقله ذاته للآخرين .
ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنين ( عليه السلام ): ( الحكمة ضالة المؤمن ،فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق » .