التّفسير:
الذين هم على مركب من نور !!
في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة أخرى دلائل التوحيد والمعاد ،ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة .إذ تشرح أحد آثار عظمة وربوبية البارئ عز وجل في نظام عالم الكون ،وذلك عندما تشير إلى مسألة ( نزول المطر ) من السماء ،ثمّ إلى نمو آلاف الأنواع من الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون ،وإلى مراحل نموها حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب الى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره القدوة لجميع المؤمنين ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض )
قطرات المطر التي تبعث الحياة حينما تنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى من طبقات الأرض ،وعندما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة أخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها ،لتبعث مرّة أخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون و قنوات و آبار .
كلمة ( سكله ) تعني ( نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض ) وهذه إشارة مختصرة لما ذكرناه آنفاً .
«ينابيع » هي جمع ( ينبوع ) مشتقّة من ( نبع ) وتعني فوران الماء من داخل الأرض .ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الامتصاص ،فإنّ مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون أن تخزن داخل قشرة الأرض ،وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات والآبار .وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماماً ،فإنّ كلّ مياه الأمطار تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض ،وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها واستخراجها ،فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأخرى غير نفوذية ،وبدرجات معينة ،كلّ ذلك ثمّ وفق حسابات خاصة ،تبيّن قدرة البارئ عز وجل .
والملفت للنظر أنّ قشرة الأرض تكون أحياناً ذات طبقات متعددة ،بعضها نفوذي والبعض الأخر غير نفوذي ،ومرتبة الواحدة فوق الأخرى ويستفاد منها في عمليات حفر الآبار ( السطحية ) و ( العميقة ) و ( نصف العميقة ) .
وتضيف الآية فيما بعد: ( ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ) ذات الأشكال المختلفة: أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة ،ذات الأشكال المختلفة و الألوان الظاهرية المتعددة ،فمنها الأخضر الغامق ،والأخضر الفاتح ،وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة ،والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة .
وممّا يذكر أن كلمة ( زرع ) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق ،فيما تطلق كلمة ( شجر )على الأشجار ذات السيقان القوية ،وكلمة ( زرع ) ذات معان كثيرة تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الاستفادة منها للغذاء ،وأنواع الورد ونباتات الزينة والأعشاب الطبية التي يؤخذ منها الدواء ،وأحياناً نرى في غصن واحد ،ولربّما في وردة واحدة عدّة ألوان جميلة جذابة ،تسبح وتوحد البارئ عز وجل بلسان صامت .
ثمّ تنتقل الآية إلى مرحلة أخرى من مراحل حياة هذه النباتات ،إذ تقول: ( ثم يهيج فتراه مصفراً ) حيث تعصف به الرياح من كلّ جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى: ( ثم يجعله حطاماً ) .
نعم ،إن في هذا لذكرى لأصحاب العقول وأهل العلم ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) .
هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه البارئ عز وجل لعالم الوجود ،وإنّه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها ،ومن ثمّ بمسألة البعث و عودة الأموات إلى الحياة .فرغم أنّ هذا المشهد يتعلّق بعالم النبات ،إلاّ أنّه ينبّه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضاً مع وجود بعض الاختلاف في مدّة الأعمار ،ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة يتدرج إلى النشاط و الشباب ،ومن ثمّ الذبول والكهولة ،وفي النهاية الموت .