و كتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد ،تنتقل الآيات إلى المقارنة بين المؤمنين و الكافرين ،كي توضح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض ،وكما أنّ الأرض التي لها الاستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر ،فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف الله ،هيفقطالتي تستفيد من آيات الله ،وذلك طبقاً لقوله تعالى: ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه ) كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور !!
أمّا القاسية قلوبهم ،فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى ،ولا الآيات القرآنية المؤثرة ،ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار التقوى والفضيلة ،وبصورة موجزة يمكن القول بأنّهم كالنباتات التي لا طراوة فيها ولا أوراق ولا ثمار ولا ظلّ .
نعم ( أولئك في ضلال مبين ) .
«القاسية » مشتقّة من ( قسوة )وتعني الخشونة والصلابة والتحجر ،لذلك تطلق صفة ( قاسية ) على الأحجار الصلبة ،و يقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية ،ولا تلين ولا تستسلم لها ،ولا تسمح بنفوذ نور الحقّ والهداية إليها ( قلوب قاسية ) .
على أية حال ،فإنّ هذه العبارة جاءت في مقابل ( انشراح الصدر ) وسعة الروح ،لأنّ الرحابة والاتساع كناية عن الاستعداد للاستقبال ،فالشارع والبيت الواسع يمكنهما أن يضمّا أناساً كثيرين ،وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة ،فإنّها مستعدّة لتقبّل حقائق أكثر .
ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ ابن مسعود قال: سئل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن تفسير هذه الآية: ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه )
فقال( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح » .
ثم قلنا: يا رسول الله ما هي علامات انشراح الصدر ؟فقال: «الإنابة إلى دار الخلود ،والتجافي عن دار الغرور ،والاستعداد للموت قبل نزوله » .
أمّا علي بن إبراهيم فيقول في تفسيره أن عبارة: ( أفمن شرح الله صدره للإسلام ) نزلت في حقّ أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب( عليه السلام ) .وقد ورد في تفاسير أخرى أنّ عبارة: ( فويل للقاسية قلوبهم ) نزلت بحقّ ( أبي لهب وأبنائه ) .
ومن الواضح أنّ أسباب النّزول هنا هي في الحقيقة من باب تطبيق المفهوم العام على المصاديق الواضحة .
إنّ ما يلفت النظر في عبارة: ( فهو على نور من ربه ) أنّ النور والضياء جعل هنا بمثابة مركبة يركبها المؤمنون تسير بهم بسرعة عجيبة ومسير واضح وقدرة على طواف العالم كلّه .
بحث:
عوامل ( شرح الصدر ) و ( قسوة القلب )
الناس ليسوا على وتيرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأُمور ،فالبعض يتمكّن من إدارك الحقيقة بمجرّد إشارة واحدة أو جملة قصيرة ،وهذا يعني أنّ تذكيراً واحداً يكفي لإيقاظهم فوراً ،وموعظة واحدة قادرة على إحداث صيحات في أرواحهم وفي حين أنّ البعض الآخر لا يتأثّر بأبلغ الكلمات وأوضح الأدلّة و أقوى العبارات ،وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو الهيّن .
وكم هي جميلة التعابير القرآنية في هذا المجال ،وذلك عندما تصف البعض بأنّهم ذوو صدور منشرحة وأرواح واسعة ،وتصف البعض الآخر بأنّهم ذوو صدور ضيفة ،كما ورد في الآية ( 125 ) من سورة الأنعام: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنّما يصعد في السماء ) .
هذا الموضوع يتّضح بصورة كاملة في حالة دراسة أوضاع وأحوال الأشخاص ،فالبعض لهم صدور منشرحة رحبة تتسع لاستيعاب أيّ مقدار من الحقائق ،في حين أنّ البعض الآخر على العكس ،إذ أنّ صدورهم ضيقة وأفكارهم محدودة لا يمكنها أحياناً استيعاب أيّ حقيقة ،وكأن عقولهم محاطة بجدران فولاذية لا يمكن اختراقها .وبالطبع لكلّ واحد منهما أسبابه .
فالدراسة الدائمة والمستمرة والاتصال بالعلماء والحكماء الصالحين ،وبناء الذات وتهذيب النفس ،واجتناب الذنوب وخاصة أكل الطعام الحرام ،وذكر الله دائماً ،كلها أسباب وعوامل لانشراح الصدر ،وعلى العكس فإنّ الجهل والذنب والعناد والجدل والرياء ،ومجالسة أصحاب السوء والفجار والمجرمين وعبيد الدنيا والشهوات ،كلّها تؤدّي إلى ضيق الصدر وقساوة القلب .
فعندما يقول القرآن الكريم: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) .فهذه الإرادة وعدم الإرادة ليست اعتباطية وبدون دليل .بل هي نابعة من أعماقنا وذواتنا في البداية .
وقد ورد حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) جاء فيه: «أوحى الله عز وجل إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثرة المال ،ولا تدع ذكري على كلّ حال ،فإن كثرة المال تنسي الذنوب ،وإن ترك ذكري يقسي القلوب» .
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،جاء فيه: «ما جفت الدموع إلاّ لقسوة القلوب ،وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب » .
كما ورد في حديث ثالث أنّ من جملة كلام الله سبحانه وتعالى مع موسى ( عليه السلام )«يا موسى لا تطول في الدنيا أملك ،فيقسو قلبك ،والقاسي القلب مني بعيد » .
وأخيراً ،ورد حديث آخر عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جاء فيه: «لمتان: لمة من الشيطان ولمة من الملك ،فلمّة الملك الرقة والفهم ،ولمّة الشيطان السهو والقسوة » .
على أية حال ،فإن من يريد انشراح صدره وإزالة القساوة من قلبه ،عليه أن يتوجه نحو البارئ عز وجل كي يبعث الأنوار الإلهية في قلبه كما وعد بذلك الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .وعليه أن يصقل مرآة قلبه من صدأ الذنوب ،ويطهّر روحه من أوساخ هوى النفس والوساوس الشيطانية ،استعداداً لاستقبال المعشوق ،وأن يسكب الدموع خوفاً من الله وحباً له ،فإنّ في ذلك تأثيراً عجيباً لا نظير له على رقّة ولين القلب ورحابة الروح ،وفي المقابل فان جمود العين هو إحدى علامات القلب المتحجر