التّفسير
أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله !
مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى( عليه السلام ) وفرعون ،لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم .المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون » الذي كان من المقربين إلى فرعون ،ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا ،وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه .
من موقعه في بلاط فرعونمكلفاً بحماية موسى( عليه السلام ) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته .
فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون ،بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط .
يقول تعالى: ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله ) .
أتقتلوه في حين أنّه: ( وقد جاءكم بالبينات من ربّكم ) .
هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه ،مثل معجزة العصا واليد البيضاء ؟ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة ،بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة ،ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده ،ولا لإغراءاته وأمنياته ،بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق ؛في سبيل دعوة موسى ،وإله موسى ...هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر ؟
فكروا جيداً ،لا تقوموا بعمل عجول ،تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلاّ فالندم حليفكم .
ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: ( وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ) .
إنّ حبل الكذب قصيركما يقولونوسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً ،وينال جزاء الكاذبين ،وإذا كان صادقاً ومأُموراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم ،لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق و الصواب .
ثم تضيف الآيات: ( إنّ الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذّاب ) .
فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية ،وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته .
ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلاّ أن «مؤمن آل فرعون » يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة .
والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون ،أو بعض الفراعنةعلى الأقلكانوا يؤمنون بالله ،وإلاّ فإن تعبير «مؤمن آل فرعون » في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسى( عليه السلام ) وتعاونه مع بني إسرائيل ،وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه ،ولا يناسب أيضاً مع أسلوب «التقية » التي كان يعمل بها .
و بالنسبة للتعبير الآنف الذكر ( و إن يك كاذباً ...) فقد طرح المفسّرون سؤالين:
الأوّل: إذا كان موسى( عليه السلام ) كاذباً ،فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه و حسب ،وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته .
الثّاني: أما لو كان صادقاً ،فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها ،كما في تعبير «مؤمن آل فرعون » ؟
بالنسبة للسؤال الأول ،نقول: إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه .وإلاّ فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله ،ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سبباً لإضلال الناس وإغوائهم ؟
وبالنسبة للسؤال الثّاني ،من الطبيعي أن يكون قصد موسى( عليه السلام ) من التهديد بالعذاب ،هو العذاب الدنيوي والأخروي ،والتعبير ب «بعض » إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي ،وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه .
وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون » واضحة في النفوذ بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى( عليه السلام ) .
ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي:
أوضح لهم أولا أنّ عمل موسى( عليه السلام ) لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه .
ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض » الأدلة ،ويظهر أنّها أدلة معتبرة ،لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطراً واضحاً .
والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم ،فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله ،ولكن يحتمل أن يكون صادقاً ،وعندها لن يتركنا الله لحالنا .
/خ29