التّفسير
المراحل السبع لخلق الإنسان:
تتميماً لما تحدثت به الآيات السابقة عن قضية التوحيد ،تستمر الآيات التي بين أيدينا في إثارة نفس الموضوع من خلال الحديث عن «الآيات الأنفسية » والمراحل التي تطوي خلق الإنسان وتطوره ،من البدء إلى النهاية .
الآية الكريمة تتحدث عن سبع مراحل تكشف عن عظمة الخالق جلّ وعلا وجزيل مواهبه ونعمه على العباد .
يقول تعالى: ( هو الذي خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ يخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدكم ثمّ لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمّى ولعلكم تعقلون ) .
يتضح من سياق الآية الكريمة أنّ المرحلة الأولى أو بداية الإنسان في مسيرة الخلق والوجود تكون من التراب ،حيث خلق الله أبانا الأوّل آدم( عليه السلام ) من تراب ، أو أنّ جميع البشر خلقوا من التراب ،ذلك أنّ المواد الغذائية التي تشكل قوام الإنسان ووجوده ،بما في ذلك النطفة ،سواء كانت حيوانية أم نباتية كلّها تستمد أساسها وأصولها من التراب .
المرحلة الثانية ،هي مرحلة النطفة التي تشمل جميع البشر كأصل ثان في وجودهم عدا آدم وزوجته حوّاء .
المرحلة الثّالثة التي تتكامل فيها النطفة وتنمو بشكل مستمر وتتحول إلى قطعة دم والمسمى بمرحلة «العلقة » .
بعد ذلك تتحول «العلقة » إلى «مضغة » أشبه ما تكون باللحم «الممضوغ » مرحلة ظهور الأعضاء ،ثمّ مرحلة الحس والحركة ،والآية لا تشير هنا إلى هذه المراحل الثلاث ،لكن الآيات الأُخرى أشارت إلى ذلك بشكل واضح .
المرحلة الرّابعة تتمثل في ولادة الجنين .بينما تتمثل المرحلة الخامسة في تكامل القوّة الجسمية التي قيل إنها تتم في سن الثلاثين ،حيث سيحرز الجسم الإنساني أكبر قدر ممكن من نموه وتكامل قواه .
وقال البعض: إنّ الإنسان يصل هذه المرحلة قبل هذا السن ،ومن الممكن أن تختلف هذه المرحلة عند الأشخاص إلى أن يحرز الإنسان فيها مرحلة «بلوغ الأشد » حسب التعبير القرآني .
بعد ذلك تبدأ مرحلة الرجوع القهقري إلى الوراء ،فيفقد الإنسان قواه تدريجياً ،فيصل إلى الشيب الذي يعتبر المحطة السادسة من محطات الإنسان .
أخيرا ،تنتهي حياة كلّ إنسان في الأرض بالموت والانتقال إلى العالم الآخر .
بعد كلّ هذه التغيرات والتطورات ،هل ثمّة من شك في قدرة وعظمة مبدئ عالم الوجود ،وألطاف الله ومواهبه على الخلق ؟!
الطريف أنّ الآية تستخدم في الإشارة إلى المراحل الأربع الأولى تعبير «خلقكم » لأنّ ليس للإنسان أي دور فيها ،حيث يتطور من التراب إلى النطفة ثمّ إلى العلقة فطفلا صغيراً من دون أن يكون له أي دور في هذه التحولات .لكن في المراحل الثلاث التي تلي الولادة ،أي مرحلة الوصول إلى أقصى القوة الجسمية ثمّ مرحلة الشيب وانتهاء العمر ،استخدمت الآية تعبير «لتبلغوا » و «لتكونوا » وفيها إشارة إلى كيان الإنسان الحرّ وفيها أيضاً ما يشير إلى الحقيقة التي تقول: إنّ نمو الإنسان ووجوده عبَر هذه المراحل الثلاث ،وتقدمه باطّراد أو تأخره ،يرتبط بشكل أو بآخر بحسن تدبير الإنسان أو سوء تدبير ،،حيث يبلغ من الشيخوخة أو يموت مبكراً ،وهذا يدل على مدى الدقّة في استخدام التعابير القرآنية الآنفة الذكر .
وسبق أن أشرنا إلى أنّ التعبير ب «يتوفى » الذي يتضمن معنى الموت ،لا يعني الفناء التام وفق المنطق القرآني ،بل إنّ ملك الموت يمسك الروح ويقبضها بإذنه تعالى وبحسب الأجل الإلهي المحتوم ،فتنقل الأرواح إلى عالم آخر ألا وهو عالم «البرزخ » .
إن تكرار مفاد هذا التعبير في القرآن الكريم ،يبيّن بوضوح نظرة الإسلام تجاه الموت ،هذا المفهوم الذي يخرج عن نطاق الفهم المادي الضيق الذي يقرن الموت بالفناء والعدم ،بينما الموت لا يعبِّر إلاّ عن انتقال الروح من هذا العالم إلى عالم آخر هو عالم البقاء .
وقوله تعالى: ( ومنكم من يتوفى من قبل ) قد يكون إشارة إلى حصول الموت قبل مرحلة الشيخوخة ،أو قد يعني الإشارة إلى المراحل السابقة بأجمعها ؛بمعنى أنّ الموت قد يصيب الإنسان قبل أن يبلغ إلى مرحلة من المراحل السابقة .
ومن الضروري أن نشير هنا إلى أنّ جميع المراحل ،عدا المرحلة الأخيرة ( أي بلوغ نهاية العمر وحلول الوفاة ) قد عطفت ب «ثم » وهي إشارة إلى السياق التسلسلي الترتيبي في سياق وجودها في حياة الإنسان ،فمرحلة «المضغة » لا تسبقمثلا مرحلة «النطفة » وهكذا .وفي هذا النوع من العطف إشارة أيضاً إلى وجود الفاصلة بين مرحلة واُخرى .
أما عطف المرحلة الأخيرة ب ( الواو ) فقد يكون السبب فيه أنّ نهاية العمر لا تكون بالضرورة بعد انتهاء مرحلة الشيخوخة ،إذ كثيراً ما يموت الإنسان قبل بلوغه إلى مرحلة الشيخوخة ( هناك بحث عن «الأجل المسمى » ذيل الآية 2 سورة الأنعام والآية 34 من سورة الأعراف والآية 61 من سورة النحل ) .