إنّ الذي يستحق العبادة هو الذي يقوم بالخلق والتدبير ،ويملك هذا العالم ويحكمه . الآية التى تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية ،حيث تقول: ( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيّام ) وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين: ( سواء للسائلين ){[3999]} .
وبهذا الترتيب فإنهّ تبارك وتعالى قد دبّر لكلّ شيء قدره وحاجته ،وليس ثمّة في الوجود من نقص أو عوز ،كما في الآية ( 50 ) من سورة «طه » حيث قوله تعالى: ( ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ) .
المقصود من «السائلين » هنا هم الناس ،أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات [ وإذا ذكرت بصيغة الجمع للعاقل فهي من باب التغليب] .
ووفق هذا التّفسير فإنّ الله تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب ،وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضاً .
وهنا يثار هذا السؤال: تذكر الآيات القرآنيةأعلاهأنّ خلق الأرض تمّ في يومين ،وخلق الجبال والبركات والطعام في أربعة أيّام .و بعد ذلك خلق السماوات في يومين ،وبذا يكون المجموع ثمانية أيّام ،في حين أن أكثر من آية في كتاب الله تذكر أنّ خلق السماوات والأرض تمّ في ستة أيّام ،أو بعبارة اُخرى: في ستة مراحل{[4000]} ؟
سلك المفسّرون طريقان في الإجابة على هذا السؤال:
الطريق الأوّل: وهو المشهور المعروف ،ومفاده أنّ المقصود بأربعة أيّام هو تتمة الأربعة أيّام ،بأن يتم في اليومين الأولين من الأربعة خلق الأرض ،وفي اليومين الآخرين خلق باقي خصوصيات الأرض .مضافاً إلى ذلك اليومين لخلق السماوات ،فيكون المجموع ستة أيّام أو ست مراحل .
وشبيه ذلك ما يرد في اللغة العربية من القول مثلا بأنّ المسافة من هنا إلى مكّة يستغرق قطعها عشرة أيّام ،وإلى المدينة المنورة ( 15 ) يوماً ،أي إنّ المسافة بن مكّة والمدينة تكون خمسة أيام ومن هنا إلى مكّة عشرة أيّام{[4001]} .
وهذا التّفسير صحيح لوجود مجموعة الآيات التي تتحدث عن الخلق في ستة أيّام ،وإلاّ ففي غير هذه الحالة لا يمكن الركون له ،من هنا تتبين أهمية ما يقال من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً .
الطريق الآخر الذي اعتمده المفسّرون للإجابة على الإشكال أعلاه هو قولهم: إنّ أربعة أيّام لا تختص ببداية الخلق ،بل هي إشارة إلى الفصول الأربعة للسنة ،والتي هي بداية ظهور الأرزاق ونمو المواد الغذائية التي تنفع الإنسان والحيوان{[4002]} .
لكن هذا التّفسير فضلا عن أنّه لا يلائم الآيات أعلاه ،فإنّه أيضاً يقصر «اليوم » فيما يتعلق بالأرض والمواد الغذائية وحسب ،لأنّ معناه يتعلق بالفصول الأربعة فقط ،بينما لاحظنا أن «يوم » في معنى خلق السماوات والأرض يعني بداية مرحلة !
مضافاً لذلك تكون النتيجة اختصاص يومين من الأيّام الستة لخلق الأرض ،ويومين آخرين لخلق السماوات ،أمّا اليومان الباقيان اللذان يتعلقان بخلق الكائنات بين السماء والأرض «ما بينهما » فليس هناك إشارة إليهما !
من كلّ ذلك يتبيّن أنّ التّفسير الأوّل أجود .
وقد لا تكون هناك حاجة للقول بأنّ «اليوم »في الآيات أعلاه هو حتماً غير اليوم العادي ،لأنّ اليوم بالمعنى العادي لم يكن قد وجد قبل خلق السماوات والأرض ،بل المقصود بذلك هو مراحل الخلق التي استنفذت من الزمن أحياناً ملايين بل وبلايين السنين{[4003]} .
ملاحظتات
تبقى أمامنا ملاحظتان ينبغي أن نشير إليهما:
أوّلا: ما هو المقصود من قوله تعالى: ( بارك فيها ) ؟
الظاهر أنّها إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض ،وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة ،حيث تستفيد منها جميع الأحياء الأرضية .
ثانياً: بما تتعلق الأيام الأربعة في عبارة: ( في أربعة أيّام ) ؟
بعض المفسّرين يعتقد أنّها تخص «الأقوات » فقط .لكنّها ليست كذلك ،بل تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية ( أي خلق الجبال ،خلق المصادر وبركات الأرض ،خلق الموارد الغذائية ) لأنّهخلافاً لذلكفإنّ بعض هذه الأمور سوف لا تدخل في الأيام الواردة في الآيات أعلاه ،وهذا أمر لا يتناسب مع نظم الآيات ونظامها .