التّفسير
علائم الحق في العالم الكبير والصغير:
الآيتان الختاميتان في هذه السورة تشيران إلى موضوعين مهمين ،وهما بمثابة الخلاصة الأخيرة لبحوث هذه السورة المباركة .
فالآية الأولى تتحدث عن التوحيد ( أو القرآن ) ،والثانية عن المعاد .
يقول تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق ) .
«آيات الآفاق » تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها ،وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى ،وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي ،إنّ كلّ هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود الله .
أمّا «الآيات النفسية » مثل خلق أجهزة جسم الإنسان ،والنظام المحير الذي يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا ،وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم .ثمّ أسرار الروح العجيبة .إنّ كلّ ذلك هي كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم .
صحيح أنّ هذه الآيات قد طرقت سابقاً بمقدار كاف من قبل الله تعالى ،إلاّ أنّ هذه العملية والإراءة مستمرة ،لأنّ( سنريهم ) فعل مضارع يدل على الاستمرار ،وإذا عاش الإنسان مئات الآلاف من السنين ،فسوف تنكشف لهُ في كلّ زمان علامات وآيات إلهية جديدة ،لأنّ أسرار العالم لا تنتهي .
إنّ كافة كتب وبحوث العلوم الطبيعية وما يتصل بمعرفة الإنسان في أبعاده المختلفة ( التشريح ،فسلجة الأعضاء ،علم النفس ،والتحليل النفسي ) وكذلك العلوم التي تختص بمعرفة النباتات والحيوانات والهيئة والطبيعة وغير ذلك ،تعتبر في الواقع كتباً وبحوثاً في التوحيد ومعرفة الخالق ( جلّ وعلا ) لأنّها عادةً ما ترفع الحجب عن الأسرار العجيبة لتبيّن قدراً من حكمة الخالق العظيم ،وقدرته الأزلية ،وعلمه الذي أحاط بكل شيء .
أحياناً يستحوذ علم واحد من هذه العلوم ،بل فرع من فروعه المتعدّدة على اهتمام عالم من العلماء فيصرف عمرهُ في سبيله ،وفي النهاية يقرّر قائلا: مع الأسف لا زلت لا أعرف شيئاً عن هذا الموضوع ،وما علمتهُ لحد الآن تجعلني أغوص أكثر في أعماق جهلي ،
نعود الآن إلى الآية التي تنتهي بجملة ذات مغزى حيث يقول تعالى: ( أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد ){[4070]} .
وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية على ناصية جميع الكائنات ،على أوراق الشجر ،في الأوراد والزهور ،وبين طبقات المخ العجيبة ،وعلى الأغشية الرقيقة للعين ،وفي آفاق السماء وبواطن الأرض ،وفي كلّ شيء من الوجود تجد أثراً يدل على الخالق ،وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه ( سبحانه وتعالى ) .
إنّ ما قلناه أعلاه هو أحد التّفسيرين المعروفين للآية ،اذ بناءاً على هذا التّفسير فإن الآية بجميعها تتحدث عن قضية التوحيد ،وتجلّي آيات الحق في الآفاق والأنفس .
أما التّفسير الثّاني فيذهب إلى قضية إعجاز القرآن ،وخلاصته أنّ الله يريد أن يقول: لقد عرضنا معجزاتنا ودلائلنا المختلفة لا في جزيرة العرب وحسب ،وإنّما في نواحي العالم المختلفة ،وفي هؤلاء المشركين أنفسهم ،حتى يعلموا بأنّ هذا القرآن على حق .
فمن آيات الآفاق ما تمثَّل بانتصار الإسلام في ميادين الحرب المختلفة ،وفي ميدان المواجهة الفكرية والمنطقية ،ثمّ انتصاره في المناطق التي فتحها وحكم فيها على أفكار الناس .
ثم إنّ نفس المجموعة من المسلمين التي كانت في مكّة ،كيف يسَّر الله لها أمرها بالهجرة ،ثمّ انطلقت إلى بقاع الدنيا ،لتدين لدينها الشعوب في مناطق واسعة من العالم ورفع راية الإسلام .
ومن آيات الأنفس ما تمثل في انتصار المسلمين على مشركي مكّة في معركة بدر ،وفي يوم فتح مكّة ،ونفوذ نور الإسلام إلى قلوب العديد منهم .
إنّ هذه الآيآت الآفاقية والأنفسية أثبتت أنّ القرآن على حق .
وهكذا فإنّ الخالق العظيم الذي يشهد على كلّ شيء ،شهد أيضاً على حقانية القرآن عن هذا الطريق .
وبالرغم من أنّ لكل واحد من هذين التّفسيرين قرائن وأدلة ترجحهُ ،إلاّ أن التأمل في نهاية الآية والآية التي تليها يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل{[4071]} .
وثمّة أقوال اُخرى في تفسير الآية تركناها لعدم جدواها .
/خ54