الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين ،وتسلّط الضوء على جملة من صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها ،حيث يقول تعالى: ( الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) .
إنّ هؤلاء يعرفون بأمرين: ترك الزكاة ،وإنكار المعاد .
لقد أثارت هذه الآية كلاماً واسعاً في أوساط المفسّرين ،وذكروا مجموعة احتمالات في تفسيرها ،والسبب في كلّ ذلك هو أنّ الزكاة من فروع الدين ،فكيف يكون تركها دليلا على الكفر والشرك ؟
البعض أخذ بظاهر الآية وقال: إنّ ترك الزكاة يعتبر من علائم الكفر ،بالرغم من عدم تلازمه مع إنكار وجوبه .
البعض الآخر اعتبر الترك مع تلازم الإنكار دليلا على الكفر ،لأنّ الزكاة من ضروريات الإسلام ومنكرها يعتبر كافراً .
وقال آخرون: الزكاة هنا بمعنى التطهير والنظافة ،وبذلك يكون المقصود بترك الزكاة ،ترك تطهير القلب من لوث الشرك ،كما جاء في الآية ( 81 ) من سورة الكهف في قوله تعالى: ( خيراً منه زكاةً ) .
إلاّ أنّ كلمة ( لا يؤتون ) لا تناسب المعنى أعلاه ،لذلك يبقى الإشكال على حاله .
لذلك لا يبقى من مجال سوى أن يكون المقصود منها هو أداء الزكاة .
المشكلة الأُخرى التي تواجهنا هنا ،هي أن الزكاة شرّعت في العام الثّاني من الهجرة المباركة ،والآيات التي بين أيدينا مكية ،بل يذهب بعض كبار المفسّرين إلى أنّ سورة «فصلت » هي من أوائل السور النازلة في مكّة ،لذلك كلّهوبغية تلافي هذه المشكلةفسّر المفسّرون الزكاة هنا بأنّها نوع من الإنفاق في سبيل الله ،أو أنّهم تأولوا المعنى بقولهم: إنّ أصل وجوب الزكاة نزل في مكّة ،إلاّ أنّ حدودها ومقدارها والنصاب الشرعي لها نزل تحديده في العام الثّاني من الهجرة المباركة .
يتبيّن من كلّ ما سلف أنّ أقرب مفهوم لمقصود الزكاة في الآية هو المعنى العام للإنفاق ،أما كون ذلك من علائم الشرك ،فيكون بسبب أنّ الإنفاق المالي في سبيل الله يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب لله ،لأنّ المال يعتبر من أحبّ الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه ،وبذلك فإنّ الإنفاقوعدمهيمكن أن يكون من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك ،خصوصاً في تلك المواقف التي يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه و نفسه ،كما نرى ذلك واضحاً في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا .
بعبارة اُخرى: إنّ المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم إيمانهم بالخالق جلّ وعلا ،والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي مع عدم الإيمان بالمعاد ،أو يكون ترك الزكاة ملازماً لإنكار وجوبه .
وثمّة ملاحظة اُخرى تساعد في فهم التّفسير ،وهي أنّ الزكاة لها وضع خاص في الأحكام والتعاليم الإسلامية ،وإعطاء الزكاة يعتبر علامة لقبول الحكومة الإسلامية والخضوع لها ،وتركها يعتبر نوعاً من الطغيان والمقاومة في وجه الحكومة الإسلامية ،و نعرف أنّ الطغيان ضدّ الحكومة الإسلامية يوجب الكفر .
والشاهد على هذا المطلب ما ذكره المؤرخون من «أصحاب الرّدة » وأنّهم من «بني طي » و «غطفان » و«بني أسد » الذين امتنعوا عن دفع الزكاة لعمال الحكومة الإسلامية في ذلك الوقت ،وبهذا رفعوا لواء المعارضة فقاتلهم المسلمون وقضوا عليهم .
صحيح أنّ الحكومة الإسلامية لم يكن لها وجود حين نزول هذه الآية ولكن هذه الآية يمكنها أن تكون إشارة مجملة إلى هذه القضية .
وقد ذكر في التواريخ أن أهل الردّة قالوا بعد وفاة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «أمّا الصلاة فنصلي ،وأمّا الزكاة فلا يغصب أموالنا » وهكذا رأى المسلمون ضرورة قتالهم وقمع الفتنة .
ملاحظة
الأهمية الاستثنائية للزكاة في الإسلام:
الآية أعلاه تعتبر تأكيداً مجدّداً وشديداً حول أهمية الزكاة كفريضة إسلامية ،سواء كانت بمعنى الزكاة الواجبة أو بمفهومها الواسع ،وينبغي أن يكون ذلك ،لأنّ الزكاة تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لتحقيق العدالة الإجتماعية ،ومحاربة الفقر والمحرومية ،وملء الفواصل الطبقية ،بالإضافة إلى تقوية البنية المالية للحكومة الإسلامية ،وتطهير النفس من حبّ الدنيا وحبّ المال ،والخلاصة: إنّ الزكاة وسيلة مثلى للتقرب إلى الله تبارك وتعالى:
وقد ورد في الروايات الإسلامية أن ترك الزكاة يعتبر بمنزلة الكفر ،وهو تعبير يشبه ما ورد في الآية التي نحن بصددها .
وفي هذا المجال نستطيع أن نقف مع الأحاديث الآتية:
أوّلا: في حديث عن الإمام الصادق( عليه السلام ) أنّ من وصايا رسول الله لأمير المؤمنين على بن أبي طالب قوله له: «يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأُمّة عشرة ،وعدّ منهم مانع الزكاة ...ثمّ قال: يا علي من منع قيراطاً من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة ،يا علي: تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا ،وذلك قوله عز وجل: ( حتى إذا جاء أحد هم الموت قال رب ارجعون ...){[3995]} .
ثانياً: في حديث آخر عن الإمام الصادق( عليه السلام ) أنّه قال: «إنّ الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها ،وهي الزكاة ،بها حقنوا دماءهم وبها سموا مسلمين »{[3996]} .
ثالثاً: أخيراً نقرأ في حديث عن الإمام الصادق( عليه السلام ) قوله: «من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً »{[3997]} .
وتقدم بحث مفصل عن أهمية الزكاة في الإسلام وفلسفتها و تأريخ وجوب الزكاة في الإسلام ،وكل ما يتعلق بها من أُمور ،في تفسير الآية ( 60 ) من سورة التوبة .