ولكن بمأنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الانتقام والحقد والتجاوز عن الحد ،لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول: ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) .
يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين ،وخاصة الافراط في الرد على الظلم في مجتمعات كالمجتمع العربي في بداية الإسلام ،لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والإنتقام .
وعمل الظالم يجب أن يسمى ب ( سيئة ) إلاّ أن جزاءه وعقابه ليس ( سيئة ) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام القرائن ،أو أنّ الظالم يعتبرها ( سيئة ) لأنّه يعاقب ،أو يحتمل أن يكون استخدام لفظة ( السيئة ) لأنّ العقاب أليم ومؤذ ،والألم والأذى بحدّ ذاته ( سيء ) بالرغم من أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسناً بحد ذاته .
وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية ( 194 ) من سورة البقرة: ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ) .
على أية حال ،فإنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها ،وكأنّما تريد الآية القول: إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى ،وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو .
لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو ،لأن ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) .
صحيح أنّه فقد حقه ولم يحصل على شيء في الظاهر ،إلاّ أنّه بسبب عفوه ،العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهّر من الأحقاد وزيادة أواصر الحب وزوال ظاهرة الانتقام والإستقرار الإجتماعي ،فقد تعهد الخالق بأن يعطيه من فضله الواسع ،ويا لها من عبارة لطيفة ( على الله ) حيث أن الخالق يعتبر نفسه مديناً لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم علىّ .
وتقول الآية في نهايتها: ( إنه لا يحب الظالمين ) .
وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات:
فأوّلا: قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحياناً السيطرة على نفسه بدقة عند العقاب والقصاص ،وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين .
وثانياً: إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين ،لأن الله لا يحب الظالمين أبداً ،بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الإجتماعية .
وثالثاً: إنّ الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على ما ارتكبوه في الماضي ،ويقومون بإصلاح أنفسهم ،وليس للظالمين الذين يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو .
وبعباة أوضح ،فإنّ كلاّ من العفو والعقاب له موقعه الخاص ،فالعفو يكون عندما يستطيع الإنسان الانتقام ،وهذا يسمى العفو البناء ،لأنّه يمنح المظلوم المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح ،وأيضاً يفرض على الظالم المغلوب إصلاح نفسه .
والعقاب والإنتقام والردّ بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمراً في غيه وضلاله ،والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد ،فالعفو هنا يكون من موقع الضعف فيجب الردّ بالمثل .
وقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليدخل الجنّة ،فيقال: من ذا الذى أجره على الله ؟فيقال: العافون عن الناس ،فيدخلون الجنّة بغير حساب »{[4151]} .
وهذا الحديثفي الحقيقةهو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا البحث ،والإسلام الأصيل هو هذا .