التّفسير
قوم تبع:
لقد كانت أرض اليمنالواقعة في جنوب الجزيرة العربيةمن الأراضي العامرة الغنية ،وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن ،وكان يحكمها ملوك يسمّون «تبّعاً »وجمعها تبابعةلأنّ قومهم كانوا يتبعونهم ،أو لأنّ أحدهم كان يخلف الآخر ويتبعه في الحكم .
ومهما يكن ،فقد كان قوم تبع يشكلون مجتمعاً قوياً في عدته وعدده ،ولهم حكومتهم الواسعة المترامية الأطراف .
وهذه الآيات تواصل البحث الذي ورد حول مشركي مكّة وعنادهم وإنكارهم للمعادفتهدد أُولئك المشركين من خلال الإشارة إلى قصة قوم تبع ،بأنّ ما ينتظركم ليس العذاب الإلهي في القيامة وحسب ،بل سوف تلاقون في هذه الدنيا أيضاً مصيراً كمصير قوم تبّع المجرمين الكافرين ،فتقول: ( أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنّهم كانوا مجرمين ) .
من المعلوم أنّ سكان الحجاز كانوا مطلعين على قصة قوم تبع الذين كانوا يعيشون في جوارهم ،ولذلك لم تفصل الآية كثيراً في أحوالهم ،بل اكتفت بالقول: أنّ احذروا أن تلاقوا نفس المصير الذي لاقاه أولئك الأقوام الآخرون الذين كانوا يعيشون قربكم وحواليكم ،وفي مسيركم إلى الشام ،وفي أرض مصر .فعلى فرض أن بإمكانكم إنكار القيامة ،فهل تستطيعون أن تنكروا العذاب الذي نزل بساحة هؤلاء القوم المجرمين العاصين ؟
والمراد من ( الذين من قبلهم ) أمثال قوم نوح وعاد وثمود .
وسنبحث المراد من قوم تبع ،في ما يأتي ،إن شاء الله تعالى .
بحث
من هم قوم تبّع ؟
لقد وردت كلمة ( تبّع ) في القرآن الكريم مرتين فقط: مرة في الآيات مورد البحث ،وأخرى في الآية 14 من سورة ( ق ) حيث تقول: ( وأصحاب الأيكة وقوم تبّع كل كذب الرسل فحق وعيد ) .
وكما أشرنا من قبل ،فإنّ «تبعاً » كان لقباً عاماً لملوك اليمن ،ككسرى لسلاطين إيران ،وخاقان لملوك الترك ،وفرعون لملوك مصر ،وقيصر لسلاطين الروم .
وكانت كلمة ( تبع ) تطلق على ملوك اليمن من جهة أنّهم كانوا يدعون الناس إلى اتباعهم ،أو لأنّ أحدهم كان يتبع الآخر في الحكم .
لكن يبدو أنّ القرآن الكريم يتحدث عن أحد ملوك اليمن خاصةكما أنّ فرعون المعاصر لموسى( عليه السلام ) ،والذي يتحدث عنه القرآن كان معيناً ومحدداًوورد في بعض الرّوايات أنّ اسمه «أسعد أبا كرب » .
ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان رجلاً مؤمناً ،واعتبروا تعبير «قوم تبّع » الذي ورد في آيتين من القرآن دليلاً على ذلك ،حيث أنّه لم يُذَمّ في هاتين الآيتين ،بل ذُم قومه ،والرّواية المروية عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاهدة على ذلك ،ففي هذه الرواية أنّه قال: «لا تسبّوا تبّعاً فإنّه كان قد أسلم »{[4297]} .
وجاء في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): «إن تبّعاً قال للأوس والخزرج: كونوا ها هنا حتى يخرج هذا النبي ،أمّا لو أدركته لخدمته وخرجت معه »{[4298]} .
وورد في رواية أُخرى: إنّ تبعاً لما قدم المدينةمن أحد أسفارهونزل بفنائها ،بعث إلى أحبار اليهود الذين كانوا يسكنونها فقال: إنّي مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ،ويرجع الأمر إلى دين العرب .
فقال له شامول اليهوديوهو يومئذ أعلمهم.أيها الملك إنّ هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل ،مولده بمكّة اسمه أحمد .ثمّ ذكروا له بعض شمائل نبيّ الإسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال تبّعوكأنّه كان عالماً بالأمر: ما إلى هذا البلد من سبيل ،وما كان ليكون خرابها على يدي{[4299]} .
بل ورد في رواية في ذيل تلك القصة أنّه قال لمن كان معه من الأوس والخزرج: أقيموا بهذا البلد ،فإنّ خرج النّبي الموعود فآزروه وانصروه ،وأوصوا بذلك أولادكم ،حتى أنّه كتب رسالة أودعهم إياها ذكر فيها إيمانه بالرّسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ){[4300]} .
ويروي صاحب أعلام القرآن أنّ تبّعاً كان أحد ملوك اليمن الذين فتحوا العالم ،فقد سار بجيشه إلى الهند واستولى على بلدان تلك المنطقة .وقاد جيشاً إلى مكّة ،وكان يريد هدم الكعبة ،فأصابه مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه .
وكان من بين حاشيته جمع من العلماء ،كان رئيسهم حكيماً يدعى شامول ،فقال له: إنّ مرضك بسبب سوء نيتك في شأن الكعبة ،وستشفى إذا صرفت ذهنك عن هذه الفكرة واستغفرت ،فرجع تبع عما أراد ونذر أن يحترم الكعبة ،فلما تحسن حاله كسا الكعبة ببرد يماني .
وقد وردت قصّة كسوة الكعبة في تواريخ أُخرى حتى بلغت حد التواتر .وكان تحرك الجيش هذا ،ومسألة كسوة الكعبة في القرن الخامس الميلادي ،ويوجد اليوم في مكّة مكان يسمى «دار التبابعة »{[4301]} .
وعلى أية حال ،فإنّ القسم الأعظم من تأريخ ملوك التبابعة في اليمن لا يخلو من الغموض من الناحية التاريخية ،حيث لا نعلم كثيراً عن عددهم ،ومدّة حكومتهم ،وربّما نواجه في هذا الباب روايات متناقضة ،وأكثر ما ورد في الكتب الإسلاميةسواء كتب التّفسير أو التأريخ أو الحديثيتعلق بذلك الملك الذي أشار إليه القرآن في موضعين .