خلود الجنّة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم الله سبحانه على المتقين ،لأنّ الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق ،ولذلك تقول الآية:
( لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ) .
والطريف أنّ القرآن الكريم قد بيّن كون نعم الجنّة خالدة بتعابير مختلفة ،فيقول تارة: ( خالدين فيها ){[4319]} ويقول أُخرى: ( عطاء غير مجذوذ ){[4320]}
أمّا لماذا عُبر ب ( الموتة الأولى ) فسيأتي بيانه في التأملات ،إن شاء الله تعالى .
وأخيراً يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها ،فيقول: ( ووقاهم عذاب الجحيم )فإنّ كمال هذه النعم إنما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنّة من احتمال العذاب ،وعدم انشغالهم به ،لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ .
وهذا التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات ،فإنّ الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه ،ويطمئنهم بأنّ لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلاً .وبتعبير آخر ،فإنّ غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا ،وهم في خوف وقلق منها ماداموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم ،وهذه الآية تمنحهم الاطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة .
وهنا يطرح سؤال ،وهو: إنّ بعض المؤمنين يقضون مدّة في الجحيم بذنوب اقترفوها ،ليتطهروا منها ،ثمّ يدخلون الجنّة ،فهل تشملهم الآية المذكورة ؟
ويمكن القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال ،بأنّ الآية تتحدث عن المتقين ذوي الدرجات السامية ،والذين يردون الجنّة من أوّل وهلة ،أما الفئة الأُخرى فهي ساكتة عنهم .
ويحتمل أيضاً أنّ هؤلاء عندما يدخلون الجنّة فلن يخشوا بعد ذلك العودة إلى النّار ،بل يبقون من الأمن الدائم ،وهذا يعني أنّ الآية أعلاه ترسم صورة هؤلاء وحالهم بعد دخولهم الجنّة .
بحث
ما هي الموتة الأولى ؟
قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى ،وهنا تطرح أسئلة ثلاثة:
الأول: ما المراد من الموتة الأولى ؟فإن كان المراد الموت الذي تنتهي به الحياة الدنيا ،فلم تقول الآية: ( لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ) في حين أنّهم قد ذاقوها ،وعليه يجب أن يأتي الفعل بصيغة الماضي لا المضارع ؟
وللإجابة عن هذا السؤال اعتبر البعض ( إلاّ ) في جملة ( إلاّ الموتة الأولى )بمعنى ( بعد ) ،وقالوا: إنّ معنى الآية هو أنّهم لا يذوقون موتاً بعد موتتهم الأولى .
وقدّر البعض الآخر تقديراً في الكلام فقالوا: إنّ التقدير هو: إلاّ الموتة الأولى التي ذاقوها{[4321]} .
الثاني: هو: لماذا ورد الكلام عن الموتة الأولى فقط ،في حين أننا نعلم أنّ الإنسان يذوق الموت مرّتين: مرّة عند انتهاء حياته ،وأخرى بعد حياة البرزخ ؟
وقد ذكروا للإجابة على هذا السؤال عدة إجابات كلها غير مرضية ،فآثرنا عدم ذكرها لعدم استحقاقها الذكر .
والأفضل أن يقال: إنّ الحياة والموت في البرزخ لا يشبهان أبداً الحياة والموت العاديين ،بل إنّ حياة القيامة تشبه الحياة الدنيا من وجوه عديدة بمقتضى المعاد الجسماني ،غاية ما هناك أنّها في مستوى أعلى وأسمى ،ولذلك يقال لأصحاب الجنّة: لا موتة بعد الموتة الأولى التي ذقتموها ،ولما كانت الحياة والموت في البرزخ لا شباهة لهما بحياة الدنيا وموتها لذا لم يرد الكلام حولهما{[4322]} .
السؤال الثّالث هو: إنّ عدم وجود الموت في القيامة لا ينحصر بأصحاب الجنّة ،بل أصحاب النّار لا يموتون أيضاً ،فلماذا أكّدت الآية على أصحاب الجنّة ؟
للمرحوم الطبرسي جواب رائع عن ذلك ،فهو يقول: إنّ ذلك بشارة لأهل الجنّة ،بأن لهم حياة خالدة هنيئة ،أما أصحاب النّار الذين يعتبر كلّ لحظة من لحظات حياتهم موتاً ،وكأنّهم يحيون ويموتون دائماً ،فلا معنى لهذا الكلام في حقهم .
وعلى أية حال ،فإنّ التعبير هنا ب( لا يذوقون ) إشارة إلى أنّ أصحاب الجنّة لا يرون ولا يعانون أدنى أثر من آثار الموت .
وجميلٌ أنّ نقرأ في حديث عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنّ الله تعالى يقول لبعض أهل الجنّة: «وعزتي وجلالي ،وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلنّ لهم اليوم خمسة أشياء: ألا إنّهم شباب لا يهرمون ،وأصحاء لا يسقمون ،وأغنياء لا يفتقرون ،وفرحون لا يحزنون ،وأحياء لا يموتون » ثمّ تلا هذه الآية: ( لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ){[4323]} .