وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر ،ومصير المؤمنين والكفّار: ( فاعلم أنّه لا إله إلاّ الله ) أي: اثبت على خط التوحيد ،فإنّه الدواء الشافي ،واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره .
وبناءً على هذا ،فلا يعني هذا الكلام أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن عالماً بالتوحيد بل المراد الاستمرار في هذا الخط ،وهذا يشبه تماماً ما ذكروه في تفسير الآية: ( اهدنا الصراط المستقيم ) في سورة الحمد ،بأنّها لا تعني عدم الهداية من قبل ،بل تعني: ثبّتنا على خط الهداية .
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد التدبّر في أمر التوحيد أكثر ،والارتقاء إلى المقامات الأسمى ،حيث أنّه كلمّا تدبّر البشر فيه أكثر ،وطالعوا آيات الله بدقّة أكبر ،فإنّهم سيصلون إلى مراتب أرقى ،والتدبّر بما قيل في الآيات السالفة في مورد الإيمان والكفر ،عامل يؤثر بحدِّ ذاته في زيادة الإيمان والكفر .
والتّفسير الثّالث أنّ المراد: الجوانب العملية للتوحيد ،أي: اعلم أنّ الملجأ والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى ،فالتجئ إليه ،ولا تطلب حل معضلاتك إلاّ منه ،ولا تخف سيل المشاكل ،ولا تخشَ كثرة الأعداء .
ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة ،فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية .
وبعد هذه المسألة العقائدية ،تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفّة عن المعصية ،فتقول: ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) .
لا يخفى أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يرتكب ذنباً قط بحكم مقام العصمة ،وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الأولى ،فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ،أو إلى أنّه قدوة للمسلمين .
وجاء في حديث: أنّ حذيفة بن اليمان يقول: كنت رجلاً ذرب اللسان على أهلي ،فقلت: يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النّار ،فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ): «فأين أنت من الاستغفار ؟إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة »{[4474]} .وجاء في بعض الروايات أنّه كان يستغفر في اليوم سبعين مرّة .
إذا كان الآخرون يستغفرون ممّا ارتكبوا من المعاصي والذنوب ،فإنّ النّبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره ،أو أنّه ترك فعل الأحسن وفعل الحسن .
وهنا نكتة جديرة بالانتباه ،وهي أنّ الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات ،وأمر نبيّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته ،ومن هنا يتبيّن عمق مسألة «الشفاعة » في الدنيا والآخرة ،وكذلك تتبيّن أهمية التوسّل وكونه مشروعاً .
ويقول سبحانه في ذيل الآية ،وكتبيان للعلّة ( والله يعلم متقلّبكم ومثواكم ) فهو يعلم ظاهركم وباطنكم ،كتمانكم وعلانيتكم ،سرّكم ونجواكم ،بل ويعلم حتى نيّاتكم ،وما توسوس به أنفسكم ،ويخطر على أذهانكم ،وما يجري في ضمائركم ،ويعلم حركاتكم وسكناتكم ،ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديه وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه .
«المتقلّب »: هو المكان الذي يكثر التردّد عليه ،و«المثوى » هو محل الاستقرار{[4475]} .
والظاهر أنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعاً يشمل كلّ حركات ابن آدم وسكناته ،سواء التي في الدنيا أم في الآخرة ،في فترة كونه جنيناً أم كونه من سكان القبور ،وإن كان كثير من المفسّرين قد ذكر لهما معاني محددة:
فقال بعضهم: إنّ المراد حركة الإنسان في النهار ،وسكونه في الليل .
وقال آخرون: إنّ المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا ،واستقراره في الآخرة .
وقال بعض آخر: إنّ المراد تقلّب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ،وثباته في القبر .
وأخيراً ذكر البعض أنّ المراد: حركاته في السفر ،وسكناته في الحضر .
ولكن كما قلنا ،فإنّ للآية معنى واسعاً يشمل كلّ هذه المعاني .
/خ19