و ( ما زاغ البصر وما طغى{[4809]} لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ) .
وكما نلاحظ في هذه الآيات فإنّ البَدوَ الإبهامي الذي كان يحيط الآيات المتقدّمة يحيط هذه الآيات أيضاً التي تتضمّن ظلالا من المواضيع السابقة ،ومن أجل أن نفهم مفاد هذه الآيات لابدّ من الرجوع إلى مفرداتها اللغوية أيضاً .
النزلة: هي النّزول مرّة واحدة ،فالنزلة الاُخرى تعني نزولا آخر ،ويستفاد من هذا التعبير أنّه حدثت نزلتان ،وهذا الموضوع يتعلّق بالنزلة الثانية{[4810]} .
والسِدرة: على وزن حِرفةطبقاً لتفسير أغلب علماء اللغة هي شجرة وريقة وريفة الظلال والتعبير ب ( سدرة المنتهى ) إشارة إلى شجرة وريقة ذات ظلال وريفة في أوج السماوات في منتهى ما تعرج إليه الملائكة وأرواح الشهداء وعلوم الأنبياء وأعمال الناس .وهي مستقرّة في مكان لا تستطيع الملائكة أن تتجاوزه ..وحين بلغ جبرئيل أيضاً في معراجه مع النّبي إلى ذلك المكان توقّف عنده ولم يتجاوزه !
ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم ،إلاّ أنّ الأخبار والرّوايات الإسلامية ذكرت لها أوصافاً كثيرة ..وجميعها كاشف عن أنّ انتخاب هذا التعبير هو لبيان نوع من التشبيه ولغاتنا قاصرة عن بيان مثل هذه الحقائق الكبرى .
ففي حديث عن النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكاً قائماً يسبّح الله تعالى »{[4811]} .
كما جاء عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) نقلا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «انتهيت إلى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظلّ اُمّة من الاُمم »{[4812]} .
وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبداً ،بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة الله وهناك محلّ تسبيح الملائكة ومأوى الاُمم الصالحة .
أمّا ( جنّة المأوى ) فمعناها الجنّة التي يُسكن فيها{[4813]} وهناك أقوال في ما هو المراد من هذه الجنّة ؟!فبعضهم قال بأنّها «جنّة الخلد » التي أعدت للمتّقين المؤمنين ومكانها في السماء ،والآية ( 19 ) من سورة السجدة ،دليلهم على مدّعاهم ( فلهم جنّات المأوى نُزلا بما كانوا يعملون ) ..فهذه الآية بقرينة ما بعدها تتحدّث عن جنّة الخلدولا شكّ أنّها تتحدّث عن جنّة الخلد .
إلاّ أنّنا نجد في آية أخرى قوله: ( وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السماوات والأرض ){[4814]} ،فاحتمل بعض المفسّرين أنّ جنّة المأوى التي في السماء غير جنّة الخلد التي عرضها السماوات والأرض .
لذلك فقد فسّر بعضهم «جنّة المأوى » بأنّها مكان خاصّ في جنّة الخلد ،وهي قريبة من سدرة المنتهى ومعدّة للمخلصين !
وربّما فسّرها بعضهم بأنّها «جنّة البرزخ » التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة .
ويبدو أنّ التّفسير الأخير أنسب التفاسير وأقربها ،وممّا يدلّ عليه بجلاء أنّنا نقرأ في كثير من الرّوايات الواردة في المعراج أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى جماعة متنعّمين في الجنّة ،مع أنّنا نعرف أنّه لن يدخل جنّة الخلد أحد قبل يوم القيامة ،لأنّ آيات القرآن تشير بوضوح أنّ المتّقين يدخلون الجنان بعد الحِسابِ [ في يوم القيامة]لا بعد الموت مباشرةً وأنّ أرواح الشهداء أيضاً في جنّة برزخية لأنّهم أيضاًلا يدخلون جنّة الخلد قبل يوم القيامة .
والآية: ( ما زاغ البصر وما طغى ) إشارة إلى أنّ بصر النبي ،وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة ولم تجاوزا حدّهما ،وما رآه النّبي بعينيه هو عين الواقع ،لأنّ «زاغ » من مادّة زيغ معناه الانحراف يميناً أو شمالا ،و «طغى » من الطغيان ،معناه التجاوز عن الحدّ ،وبتعبير آخر إنّ الإنسان حين يرى شيئاً فيخطئ رؤيته ولا يلتفت إليه بدقّة فإمّا أنّه يلتفت يمنة ويسرة أو إلى ما ورائه{[4815]} .
والآن وحيث فرغنا من تفسير مفردات الآي نعود إلى التّفسير العامّ للآيات .
نعود مرّة أخرى إلى النظريتين في تفسير الآية ..
فقال جماعة من المفسّرين بأنّ الآيات ناظرة إلى مشاهدة النّبي للمرّة الثانية جبرئيل في صورته الحقيقيّة عند نزوله من المعراج عند سدرة المنتهى ولم يَزغْ بصره في رؤية الملك ولم يخطئ أبداً .
والنّبي رأى في هذه الحال بعضاً من آيات الله الكبرى ،والمقصود بها هي رؤية جبرئيل في صورته الواقعية ،أو بعض آيات السماء في عظمتها وعجائبها ،أو كلتيهما .
إلاّ أنّ الإشكالات الواردة على التّفسير السابق ما تزال باقية هنا ،بل تضاف إلى تلك الإشكالات إشكالات اُخر ومنها:
إنّ التعبير ب ( نزلة اُخرى ) حسب هذا التّفسير ليس فيه مفهوم واضح ،لكن بحسب التّفسير الثاني يكون المعنى إنّ النّبي رأى الله في شهود باطني عند معراجه في السماء ،وبتعبير آخر نزل الله مرّة أخرى على قلب النّبي وتحقّق الشهود الكامل في ( المنتهى إليه ) القريب إلى الله من عباده عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار الله .
ورؤية قلب النّبي في هذا الشهود لم تكن بغير الحقّ أبداً ،ولم يرَ سواه ،ولقد رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضاً وشاهدها بعينيه .
ومسألة الشهود الباطني كما أشرنا إليها من قبل هي نوع من الإدراك أو الرؤية التي لا تشبه الإدراكات العقلية ولا الإدراكات الحسيّة التي يدركها الإنسان بواسطة الحواس الظاهرة ،ولعلّه يشبه من بعض الجهات بعلم الإنسان بوجود نفسه وأفكاره وتصوّراته .
توضيح ذلك ..انّنا نوقن بوجود أنفسنا وندرك أفكارنا ونعرف إرادتنا وميولنا النفسيّة ،إلاّ أنّ مثل هذه المعرفة لم تحصل لا عن طريق الاستدلال ولا عن طريق المشاهدة الظاهرية بل هي نوع من الشهود الباطني لنا ،وعن هذا الطريق وقفنا على وجودنا وروحياتنا .
ولذلك فإنّ العلم الحاصل عن الشهود الباطني لا يقع فيه الخطأ ،لأنّه لم يحصل عن طريق الاستدلال الذي قد يقع الخطأ في مقدّماته ،ولا عن طريق الحسّ الذي قد يقع الخطأ فيه بواسطة الحواس .
صحيح أنّنا لا نستطيع أن نكشف حقيقة الشهود الذي حصل للنبي ليلة المعراج في رؤيته الله عزّ وجلّ إلاّ أنّ المثال الذي ذكرناه مناسب للتقريب ..والرّوايات الإسلامية بدورها خير معين لنا في هذا الموضوع